اللغة النوبية: رحلة عبر آلاف السنين من التاريخ والثقافة والهوية
العصور القديمة واللغة المروية: تعتبر الحضارة المروية (حوالي 300 ق.م - 350 م)، التي خلفت مملكة كوش، من أبرز الحضارات التي نشأت في النوبة. تركت هذه الحضارة وراءها العديد من النقوش المكتوبة باللغة المروية، باستخدام نظامي كتابة: الهيروغليفية المروية (المشتقة من المصرية القديمة) والديموطيقية المروية (الأبجدية). العلاقة بين اللغة المروية واللغة النوبية لا تزال موضوع نقاش وجدل بين الباحثين. بينما يعتقد البعض بوجود صلة قرابة لغوية، ربما تكون المروية سلفاً قديماً للنوبية أو لغة شقيقة ضمن عائلة لغوية أكبر، يرى آخرون أن الأدلة غير كافية لإثبات هذه الصلة بشكل قاطع. تتمثل الصعوبة الرئيسية في قلة النصوص المروية المكتشفة وصعوبة فك رموزها بشكل كامل، مما يحد من قدرتنا على مقارنتها بشكل دقيق مع اللغات الأخرى، بما فيها النوبية القديمة. ومع ذلك، فإن وجود هذه اللغة المكتوبة في قلب النوبة القديمة يشير إلى تقاليد لغوية عريقة في المنطقة سبقت ظهور النوبية القديمة الموثقة.
العصور الوسطى ومملكة النوبة المسيحية (النوبية القديمة): تعتبر فترة الممالك النوبية المسيحية (المقرة، نوباتيا، علوة) التي ازدهرت بين القرنين السادس والرابع عشر الميلادي، العصر الذهبي للغة النوبية المكتوبة. مع انتشار المسيحية في النوبة، تبنى النوبيون الأبجدية القبطية (المشتقة من اليونانية مع إضافة بعض الحروف من الديموطيقية المصرية) لكتابة لغتهم. أضاف النوبيون ثلاثة حروف خاصة لتمثيل أصوات غير موجودة في القبطية أو اليونانية، مما أنتج ما يعرف بـ الأبجدية النوبية القديمة .تم اكتشاف مئات المخطوطات والوثائق المكتوبة باللغة النوبية القديمة، معظمها ذات طابع ديني (ترجمات للكتاب المقدس، نصوص ليتورجية، سير قديسين)، ولكنها تشمل أيضاً وثائق قانونية وإدارية ورسائل شخصية ونقوشاً على الجدران والفخار. تعتبر هذه النصوص مصدراً لا يقدر بثمن لدراسة اللغة النوبية في تلك الفترة، وتوفر أدلة قوية على بنية اللغة وقواعدها ومفرداتها. تظهر النوبية القديمة ك لغة متطورة ذات نظام صرفي ونحوي معقد. أشهر هذه النصوص هي "معجزة القديس ميناس" ومجموعة كبيرة من الوثائق التي اكتشفت في قصر إبريم. تُظهر دراسة النوبية القديمة أنها السلف المباشر للغة النوبية الحديثة بلهجاتها المختلفة، وخاصة لهجة النوبيين (الفاديجا والمحس).
العصر الإسلامي وما بعده: التحولات والتراجع التدريجي: مع تراجع الممالك المسيحية وصعود النفوذ الإسلامي والعربي في المنطقة ابتداءً من القرن الرابع عشر والخامس عشر، بدأت اللغة العربية تكتسب أهمية متزايدة كلغة للدين والإدارة والتجارة. بدأت اللغة النوبية تفقد دورها كلغة مكتوبة بشكل تدريجي، واقتصر استخدامها بشكل متزايد على المجال الشفهي والحياة اليومية داخل المجتمعات النوبية. لم تتوقف اللغة النوبية عن التطور خلال هذه الفترة، بل استمرت في التغير والتأثر باللغة العربية، مما أدى إلى اقتراض العديد من المفردات والتراكيب. أدى بناء السد العالي في مصر في الستينيات من القرن العشرين إلى تهجير قسري لعشرات الآلاف من النوبيين من أراضيهم التاريخية التي غمرتها مياه بحيرة ناصر. كان لهذا الحدث آثار كارثية على النسيج الاجتماعي والثقافي للنوبيين، وأدى إلى تشتيت المجتمعات الناطقة بالنوبية وزيادة تعرض اللغة لضغوط لغات الأغلبية (العربية) في مناطق الاستيطان الجديدة.
العصر الحديث: تحديات البقاء وجهود الإحياء: في العصر الحديث، تواجه اللغة النوبية تحديات كبيرة تتعلق بالهيمنة المتزايدة للغة العربية في التعليم والإعلام والحياة العامة، والهجرة، وتغير أنماط الحياة. على الرغم من هذه التحديات، لا تزال اللغة النوبية حية ويتحدث بها مئات الآلاف من الأشخاص في مصر والسودان والمهجر. يشهد العصر الحديث أيضاً اهتماماً متزايداً من قبل الباحثين والنشطاء النوبيين وغير النوبيين بتوثيق اللغة ودراستها وتطوير أنظمة كتابة حديثة لها وتعليمها للأجيال الجديدة، في محاولة للحفاظ على هذا الإرث اللغوي والثقافي الهام.
عائلة اللغات النيلية الصحراوية (Nilo-Saharan): تعتبر اللغة النوبية جزءاً من عائلة اللغات النيلية الصحراوية ، وهي واحدة من أكبر العائلات اللغوية في أفريقيا من حيث التنوع الجغرافي واللغوي، وإن كانت أقل عددياً من حيث المتحدثين مقارنة بالعائلات الأخرى مثل النيجر-كونغو أو الأفروآسيوية.تمتد اللغات النيلية الصحراوية عبر 17 دولة في شمال وشرق ووسط أفريقيا، من مالي غرباً إلى إثيوبيا شرقاً، ومن مصر شمالاً إلى تنزانيا جنوباً. تتميز هذه العائلة بتنوع داخلي كبير، والعلاقات الدقيقة بين فروعها المختلفة لا تزال موضوع بحث مستمر. اقترح عالم اللغة جوزيف غرينبرغ هذا التصنيف في الستينيات، وهو مقبول على نطاق واسع، وإن كان مع بعض التحفظات والنقاشات حول حدوده وتماسكه.
الفرع السوداني الشرقي (Eastern Sudanic): داخل العائلة النيلية الصحراوية، تنتمي اللغة النوبية إلى الفرع السوداني الشرقي . يعتبر هذا الفرع أحد أكبر وأهم فروع العائلة النيلية الصحراوية.يضم الفرع السوداني الشرقي، بالإضافة إلى اللغات النوبية، مجموعات لغوية أخرى هامة مثل: اللغات النيلية (Nilotic): وتشمل لغات الدينكا، والنوير، والشلك، والماساي، واللو، وغيرها، المنتشرة في جنوب السودان وأوغندا وكينيا وتنزانيا.لغات السورميك (Surmic): في جنوب غرب إثيوبيا وجنوب شرق السودان.لغات جبل شرق الجبل (Eastern Jebel): في شرق السودان.لغات التاما (Taman): في تشاد والسودان.لغات الداجو (Daju): متفرقة في تشاد والسودان.لغات النيما (Nyima): في جبال النوبة بالسودان.
المجموعة النوبية (Nubian Branch): تشكل اللغة النوبية بلهجاتها المختلفة مجموعة متماسكة داخل الفرع السوداني الشرقي. تعتبر اللغات النوبية هي الفرع الوحيد ضمن اللغات السودانية الشرقية (وربما النيلية الصحراوية بأكملها باستثناء المروية) الذي له تاريخ طويل وموثق من الكتابة يعود إلى العصور الوسطى (النوبية القديمة).
العلاقات مع اللغات الأخرى: تشترك اللغة النوبية في بعض الخصائص اللغوية العامة مع اللغات الأخرى في الفرع السوداني الشرقي والعائلة النيلية الصحراوية الأوسع، مثل بعض السمات الصوتية (وجود الأصوات الطبقية أو الحلقية)، والميل نحو اللواحق (Suffixation) في الصرف، وبعض الأنماط النحوية (مثل الترتيب الشائع للكلمات في الجملة). ومع ذلك، تتميز اللغة النوبية أيضاً بخصائص فريدة تميزها عن أقرب أقربائها اللغويين. تأثرت اللغة النوبية على مر تاريخها باللغات المجاورة، وخاصة اللغة العربية، وأيضاً بدرجة أقل باللغات القبطية واليونانية (في فترة النوبية القديمة) واللغات البجاوية (الكوشية) واللغات الأفريقية الأخرى في السودان. يظهر هذا التأثر بشكل رئيسي في المفردات المستعارة.
التوزيع الجغرافي: مصر: يتحدث النوبيون في مصر بشكل أساسي لهجتي الكنزية (الماتوكية) والنوبيين (الفاديجا). يتركز الناطقون بالكنزية تقليدياً في المنطقة الواقعة شمال أسوان، بينما يتركز الناطقون بالنوبيين جنوب أسوان حتى الحدود السودانية. بعد بناء السد العالي، تم تهجير معظم هؤلاء النوبيين إلى منطقة كوم أمبو ومناطق أخرى في مصر، مما أدى إلى تداخل جغرافي أكبر بين المجموعتين، بالإضافة إلى وجود جاليات نوبية كبيرة في المدن الرئيسية مثل القاهرة والإسكندرية.السودان: يعتبر السودان المعقل الأكبر للغة النوبية. يتحدث بها السكان في الولاية الشمالية، وتحديداً في المناطق الممتدة من وادي حلفا شمالاً (حيث تسود لهجة النوبيين/المحس) مروراً بمنطقة السكوت والمحس وصولاً إلى منطقة دنقلا جنوباً (حيث تسود اللهجة الدنقلاوية/الأنداندي). بالإضافة إلى ذلك، توجد مجموعات نوبية أخرى في مناطق مختلفة من السودان:نوبة الجبال: في ولاية جنوب كردفان (جبال النوبة)، توجد مجموعة تتحدث لغات نوبية تختلف عن نوبية النيل، وأشهرها لغةالميدوب (في منطقة المالحة بشمال دارفور) ولهجات أخرى مثل الكَدَرُو والغُلْفَان.لغة البرقد (Birgid): كانت منتشرة في السابق في شمال دارفور وكردفان، ولكن يُعتقد أنها اندثرت تماماً في أواخر القرن العشرين.
المهجر: نتيجة للهجرة والتهجير، توجد مجتمعات نوبية ناطقة باللغة في العديد من المدن السودانية الكبرى (مثل الخرطوم وبورتسودان) ودول الخليج العربي وأوروبا وأمريكا الشمالية.
الفروع (اللهجات) الرئيسية: يقسم علماء اللغة عادةً اللغات النوبية الحية إلى المجموعات التالية بناءً على درجة التقارب اللغوي:النوبية الشمالية (نوبين Nobiin): تُعرف أيضاً باسم الفاديجا (في مصر وجنوب وادي حلفا) والمحس (في السودان، شمال دنقلا). يعتبرهما البعض لهجتين متقاربتين جداً للغة واحدة هي النوبين.تعتبر النوبين هي الأقرب إلى اللغة النوبية القديمة الموثقة في المخطوطات. يبلغ عدد المتحدثين بها مئات الآلاف.
النوبية الوسطى (Kenzi-Dongolawi): تضم لهجتين رئيسيتين: الكنزية (Kenzi / Mattokki): يتحدث بها الكنوز في أقصى جنوب مصر (تقليدياً شمال أسوان) والمناطق الجديدة بعد التهجير.الدنقلاوية (Dongolawi / Andaandi): يتحدث بها الدناقلة في المنطقة المحيطة بدنقلا في شمال السودان.
تتميز الكنزية والدنقلاوية بتقارب كبير بينهما لدرجة أن البعض يعتبرهما لهجتين للغة واحدة، وإن كان هناك اختلافات صوتية ومعجمية ونحوية ملحوظة. يفصل بينهما وبين النوبين (الشمالية) اختلافات أكبر تجعل التواصل بين متحدثي المجموعتين صعباً دون تعلم مسبق، وإن كان ليس مستحيلاً تماماً. لا يوجد تفاهم متبادل (Mutual Intelligibility) كامل بين النوبين والكنزية/الدنقلاوية. يبلغ عدد المتحدثين بمجموعة الكنزية-الدنقلاوية أيضاً مئات الآلاف.
النوبية الغربية (نوبة الجبال والميدوب): تشمل اللغات النوبية المتحدث بها في جبال النوبة بوسط السودان (مثل الكَدَرُو والغُلْفَان وغيرها) ولغة الميدوب (Meidob) المتحدث بها في شمال دارفور.تختلف هذه اللغات بشكل كبير عن لغات نوبية النيل (النوبين والكنزية-الدنقلاوية). عدد المتحدثين بها أقل بكثير مقارنة بنوبية النيل. لغة الميدوب، على سبيل المثال، يتحدث بها بضع عشرات الآلاف.
البرقد (Birgid): كانت تُستخدم في دارفور وكردفان. تعتبر الآن لغة منقرضة، حيث توفي آخر المتحدثين بها في النصف الثاني من القرن العشرين. تم توثيق بعض مفرداتها وقواعدها قبل اندثارها.
العلاقات بين اللهجات: تعتبر النوبين (الشمالية) والكنزية-الدنقلاوية (الوسطى) الأقرب لغوياً وتشكلان معاً ما يعرف بـ "نوبية النيل". توجد اختلافات منتظمة في الأصوات بين هذه اللهجات (مثلاً، صوت /s/ في النوبين قد يقابله /ʃ/ (ش) في الكنزية-الدنقلاوية في بعض الكلمات، وحرف /l/ قد يقابله /r/ والعكس). توجد أيضاً اختلافات في المفردات والقواعد النحوية، خاصة في الضمائر وبعض اللواحق الفعلية والاسمية. لغات نوبة الجبال والميدوب تُظهر اختلافات أعمق عن نوبية النيل، مما يشير إلى انفصال أقدم في التاريخ.
أولاً: النظام الصوتي (الفونولوجيا Phonology): الصوامت (Consonants): تحتوي اللهجات النوبية على مجموعة غنية من الصوامت، تشمل العديد من الأصوات المألوفة في اللغات الأخرى (مثل /b/, /t/, /d/, /k/, /g/, /m/, /n/, /l/, /r/, /s/, /f/, /h/) بالإضافة إلى أصوات مميزة. توجد أصوات انفجارية مجهورة ومهموسة (مثل /p/ vs /b/, /t/ vs /d/, /k/ vs /g/). تحتوي على أصوات أنفية مثل /m/, /n/, /ɲ/ (مثل ny في "canyon" الإنجليزية أو "ñ" الإسبانية), /ŋ/ (مثل ng في "sing" الإنجليزية). توجد أصوات جانبية (/l/) واهتزازية (/r/). تتميز بوجود أصوات احتكاكية مثل /s/, /ʃ/ (ش), /f/, /h/, وأحياناً /z/ (ز) خاصة في الكلمات المستعارة. بعض اللهجات قد تحتوي على أصوات مركبة (Affricates) مثل /t͡ʃ/ (تش) و /d͡ʒ/ (ج). لا تحتوي النوبية الأصلية على الأصوات الحلقية أو المطبقة المميزة للغة العربية (مثل ع، ح، ص، ض، ط، ظ)، ولكن هذه الأصوات قد تظهر في الكلمات المستعارة من العربية ويتم نطقها بشكل مقارب أو استبدالها بأصوات نوبية قريبة. التضعيف (التشديد Gemination) للصوامت قد يكون له دور صوتي (فونيمي) لتمييز المعاني في بعض الحالات.
الصوائت (Vowels): تمتلك اللغة النوبية نظاماً صائتياً يعتمد عادة على خمسة صوائت أساسية: /a/, /e/, /i/, /o/, /u/. طول الصائت (Vowel Length): يعتبر طول الصائت سمة صوتية هامة جداً في النوبية. كل صائت من الصوائت الخمسة يمكن أن يكون قصيراً أو طويلاً (مثل /a/ مقابل /a:/, /i/ مقابل /i:/). تغيير طول الصائت يمكن أن يغير معنى الكلمة بالكامل (مثلاً، قد تعني كلمة بصائت قصير شيئاً وكلمة بنفس الصوامت ولكن بصائت طويل شيئاً آخر).انسجام الصوائت (Vowel Harmony): تعد ظاهرة انسجام الصوائت سمة بارزة في العديد من اللهجات النوبية (وخاصة النوبين). هذا يعني أن صوائت اللواحق (Suffixes) تتغير لتنسجم مع صوائت جذر الكلمة وفقاً لخصائص معينة (مثل التقدم/التأخر أو الارتفاع/الانخفاض). هذا يعطي اللغة سلاسة صوتية مميزة. على سبيل المثال، لاحقة معينة قد تظهر بصائت /e/ بعد جذر يحتوي على /e/ أو /i/، بينما تظهر بصائت /a/ بعد جذر يحتوي على /a/, /o/, أو /u/.
النغمات (Tones): تعتبر اللغة النوبية (خاصة نوبية النيل) لغة نغمية (Tonal Language). هذا يعني أن تغيير نغمة النطق (ارتفاع أو انخفاض حدة الصوت) على مقطع لفظي يمكن أن يغير معنى الكلمة أو وظيفتها النحوية، حتى لو كانت الصوامت والصوائت نفسها. عادة ما يتم التمييز بين نغمتين أو ثلاث نغمات أساسية (مثل نغمة عالية High، نغمة منخفضة Low، وأحياناً نغمة هابطة Falling أو صاعدة Rising). تلعب النغمات دوراً حاسماً في تمييز المفردات (Lexical Tone) وفي تحديد الوظائف النحوية (Grammatical Tone)، مثل التمييز بين بعض صيغ الأفعال أو الحالات الإعرابية للأسماء. النظام النغمي هو أحد أكثر جوانب اللغة النوبية تعقيداً وصعوبة للمتعلمين غير الناطقين بها، وهو غير ممثل عادة في أنظمة الكتابة المقترحة.
ثانياً: النظام الصرفي (المورفولوجيا Morphology): لغة إلصاقية (Agglutinative Language): تعتبر اللغة النوبية مثالاً نموذجياً للغات الإلصاقية. هذا يعني أن الكلمات تتشكل عن طريق إضافة سلسلة من اللواحق (Suffixes) إلى جذر الكلمة، حيث كل لاحقة تحمل معنى نحوياً أو وظيفة محددة (مثل الزمن، الجانب، الحالة الإعرابية، العدد، الملكية، إلخ). هذه اللواحق تبقى واضحة ومميزة ولا تندمج مع الجذر أو مع بعضها البعض بشكل كبير كما في اللغات التصريفية (Inflectional) مثل العربية أو اللاتينية.صرف الأسماء (Nominal Morphology): العدد (Number): يتم التمييز بين المفرد والجمع عادة بإضافة لاحقة للجمع إلى الاسم المفرد (مثل لاحقة-i أو-guu أو غيرها حسب اللهجة والسياق الصوتي).الحالة الإعرابية (Case): تمتلك اللغة النوبية نظاماً غنياً من الحالات الإعرابية التي تحدد وظيفة الاسم داخل الجملة (فاعل، مفعول به، مضاف إليه، أداة، مكان، اتجاه، إلخ). يتم التعبير عن هذه الحالات بإضافة لواحق حالة (Case Suffixes) إلى نهاية الاسم. على سبيل المثال، قد توجد لاحقة للفاعل (Nominative - غالباً ما تكون بدون علامة)، لاحقة للمفعول به (Accusative)، لاحقة للمضاف إليه (Genitive)، لاحقة للمفعول لأجله أو الأداة (Instrumental)، لاحقة للمكان (Locative)، وغيرها. هذا النظام يغني عن الحاجة إلى حروف جر كثيرة كما في العربية أو الإنجليزية، حيث تقوم اللواحق بهذه الوظيفة.المعرفية (Definiteness): يمكن التعبير عن الاسم المعرف (the) والمنكر (a/an) باستخدام أدوات تعريف أو لواحق معينة.الملكية (Possession): يتم التعبير عن الملكية غالباً باستخدام لواحق ملكية تضاف إلى الاسم المملوك، أو باستخدام صيغة المضاف إليه للاسم المالك.
صرف الأفعال (Verbal Morphology): النظام الفعلي في النوبية معقد ويعتمد بشكل كبير على إضافة اللواحق إلى جذر الفعل. الجذر الفعلي (Verb Root): يحمل المعنى الأساسي للفعل.اللواحق (Suffixes): تضاف سلسلة من اللواحق بعد الجذر للتعبير عن:الزمن (Tense): الماضي، الحاضر، المستقبل.الجانب (Aspect): الاكتمال (Perfective)، الاستمرار (Imperfective/Progressive)، الاعتياد (Habitual).الصيغة (Mood): الإخباري (Indicative)، الأمر (Imperative)، الشرطي (Conditional)، التمني (Optative).الفاعل (Subject Agreement): تتفق اللواحق الفعلية مع الفاعل في الشخص (المتكلم، المخاطب، الغائب) والعدد (المفرد، الجمع).النفي (Negation): يتم التعبير عن النفي غالباً بإضافة لاحقة نفي محددة ضمن سلسلة اللواحق الفعلية.المبني للمجهول (Passive Voice) والأصوات الأخرى: يمكن تكوين صيغ أخرى للفعل (مثل المبني للمجهول، السببية Causative، الانعكاسية Reflexive) بإضافة لواحق اشتقاقية إلى جذر الفعل.
مثال توضيحي (مبسط جداً): قد يبدو الفعل "هو يكتب" كـ [جذر "كتب" + لاحقة استمرار + لاحقة فاعل غائب مفرد]. والفعل "هم لم يكتبوا" كـ [جذر "كتب" + لاحقة نفي + لاحقة ماضي/اكتمال + لاحقة فاعل غائب جمع].
الاشتقاق (Derivation): يمكن اشتقاق كلمات جديدة (مثل أسماء من أفعال، أو صفات من أسماء) عن طريق إضافة لواحق اشتقاقية (Derivational Suffixes).
ثالثاً: النظام النحوي (التركيب Syntax): ترتيب الكلمات الأساسي (Basic Word Order): الترتيب الغالب للكلمات في الجملة النوبية هوفاعل - مفعول به - فعل (SOV - Subject-Object-Verb) . هذا يختلف عن الترتيب الشائع في اللغة العربية (فعل - فاعل - مفعول به VSO أو فاعل - فعل - مفعول به SVO) أو الإنجليزية (SVO).مثال: بدلاً من "الولد أكل التفاحة"، يكون الترتيب "الولد التفاحة أكل". (معبراً عنه باللواحق المناسبة).
الظروف والأدوات (Adpositions): تستخدم اللغة النوبيةاللواحق البعدية (Postpositions) بدلاً من حروف الجر (Prepositions) المستخدمة في العربية والإنجليزية. هذا يعني أن الأداة التي تحدد العلاقة المكانية أو الزمنية تأتيبعد الاسم الذي ترتبط به، وليس قبله. (مثلاً، بدلاً من "في البيت"، قد تكون الصيغة "البيت-في"). غالباً ما تكون هذه اللواحق البعدية هي نفسها لواحق الحالة الإعرابية.الصفات (Adjectives): تأتي الصفات عادةقبل الاسم الذي تصفه. (مثلاً، "البيت الكبير" تكون "كبير البيت").المضاف إليه (Genitives): يأتي المضاف إليه (المالك) عادةقبل الاسم المملوك. (مثلاً، "بيت الرجل" تكون "الرجل-لاحقة إضافة بيت").الجمل الموصولة (Relative Clauses): غالباً ما تسبق الجملة الموصولة الاسم الذي تصفه، وقد تستخدم صيغاً فعلية خاصة (participial forms) بدلاً من أدوات الوصل الصريحة.الأسئلة (Questions): يمكن تكوين أسئلة "نعم/لا" بتغيير النغمة أو بإضافة لاحقة استفهام في نهاية الجملة. أسئلة المعلومات (من، ماذا، أين...) تستخدم أدوات استفهام توضع عادة في موقع الكلمة التي يُسأل عنها.الروابط (Conjunctions): تستخدم الروابط لربط الجمل والعبارات، وقد تكون هذه الروابط كلمات مستقلة أو لواحق تضاف إلى الفعل الأخير في الجملة الأولى.
رابعاً: المعجم (المفردات Lexicon): تحتوي اللغة النوبية على معجم أساسي غني يعكس بيئة وثقافة وتاريخ الشعب النوبي. الكلمات المستعارة (Loanwords): نتيجة للتواصل الطويل مع الثقافات واللغات الأخرى، استعارت اللغة النوبية العديد من المفردات.من العربية: التأثير الأكبر يأتي من اللغة العربية، خاصة في مجالات الدين والإدارة والمصطلحات الحديثة والتكنولوجيا. تم تكييف هذه الكلمات صوتياً وصرفياً لتناسب النظام النوبي.من القبطية واليونانية: يوجد عدد من الكلمات المستعارة، خاصة في المصطلحات الدينية المسيحية، التي تعود إلى فترة النوبية القديمة.من لغات أفريقية أخرى: قد يوجد بعض التأثير المتبادل مع اللغات المجاورة مثل البجاوية أو لغات أخرى في السودان.من التركية والإنجليزية: دخلت بعض المفردات في فترات لاحقة عبر الإدارة العثمانية والتواصل الحديث.
التغير الدلالي (Semantic Change): كأي لغة حية، شهدت مفردات اللغة النوبية تغيرات في معانيها عبر الزمن.
الأبجدية النوبية القديمة: الأصل والتطور: كما ذكر سابقاً، خلال فترة الممالك النوبية المسيحية (القرن السادس إلى الرابع عشر الميلادي)، تم تكييف الأبجدية القبطية لكتابة اللغة النوبية. الأبجدية القبطية نفسها مشتقة بشكل أساسي من الأبجدية اليونانية، مع إضافة سبعة حروف مأخوذة من الديموطيقية المصرية لتمثيل أصوات قبطية غير موجودة في اليونانية.التكييف النوبي: أخذ النوبيون الأبجدية القبطية بحروفها اليونانية والقبطية، وأضافوا إليها ثلاثة حروف جديدة لتمثيل أصوات خاصة باللغة النوبية لم تكن موجودة في القبطية أو اليونانية. هذه الحروف الإضافية هي:حرف لتمثيل الصوت الأنفي الحنكي /ɲ/ (ñ/ny). حرف لتمثيل الصوت الأنفي الطبقي /ŋ/ (ng). حرف لتمثيل الصوت الاحتكاكي الحنكي /ʃ/ (ش) أو المركب /t͡ʃ/ (تش) - استخدامه الدقيق لا يزال محل نقاش في بعض السياقات.
الشكل والاستخدام: كانت الأبجدية النوبية القديمة تكتب عادة من اليسار إلى اليمين، مثل اليونانية والقبطية. استخدمت بشكل أساسي لكتابة النصوص الدينية والوثائق الإدارية والقانونية والرسائل والنقوش.الأهمية: تعتبر هذه الأبجدية والنصوص المكتوبة بها دليلاً قوياً على حيوية اللغة النوبية ومكانتها كلغة أدب وإدارة في تلك الفترة. كما أنها المصدر الرئيسي لمعرفتنا بالنوبية القديمة، التي هي سلف اللهجات النوبية الحديثة.الانحسار: مع تراجع المسيحية والنفوذ السياسي للممالك النوبية، وتزايد استخدام اللغة العربية، انحسر استخدام الأبجدية النوبية القديمة تدريجياً حتى اختفت تماماً من الاستخدام اليومي.
الفترة الانتقالية وانعدام الكتابة المعيارية: لعدة قرون بعد انحسار النوبية القديمة، لم يكن للغة النوبية نظام كتابة معياري متفق عليه. استمرت اللغة في الاستخدام الشفهي كلغة أم للمجتمعات النوبية، ولكنها لم تعد لغة للكتابة والتدوين بشكل منتظم.
المحاولات الحديثة لتطوير أنظمة كتابة: مع تزايد الوعي بأهمية الحفاظ على اللغة النوبية في العصر الحديث، ومع جهود الباحثين والنشطاء اللغويين، ظهرت عدة محاولات لتطوير أنظمة كتابة عملية للغة النوبية الحديثة بلهجاتها المختلفة (النوبين، الكنزية، الدنقلاوية). تركزت هذه المحاولات على استخدام نوعين رئيسيين من الحروف: الكتابة بالحروف اللاتينية: المزايا: الأبجدية اللاتينية منتشرة عالمياً ومدعومة بشكل جيد في التقنيات الحديثة (لوحات المفاتيح، الحواسيب، الإنترنت). يمكن تكييفها بسهولة لتمثيل معظم الأصوات النوبية باستخدام علامات التشكيل (Diacritics) أو تراكيب الحروف (Digraphs). العديد من اللغويين يفضلونها للدراسات العلمية والتوثيق بسبب وضوحها النسبي في تمثيل الأصوات.التحديات: قد تبدو غير مألوفة لبعض الناطقين بالنوبية الذين اعتادوا على قراءة وكتابة العربية. يتطلب الاتفاق على نظام موحد لتمثيل الأصوات الخاصة (مثل النغمات، الصوائت الطويلة، الأصوات الأنفية الحنكية والطبقية) باستخدام الحروف اللاتينية.أمثلة: تم اقتراح عدة أنظمة لاتينية، بعضها يستخدم حروفاً مثل "ñ" أو "ny" للصوت /ɲ/، و "ŋ" أو "ng" للصوت /ŋ/، وعلامات تشكيل فوق الصوائت للإشارة إلى الطول أو النغمة.
الكتابة بالحروف العربية: المزايا: الأبجدية العربية مألوفة جداً للغالبية العظمى من النوبيين في مصر والسودان بسبب إجادتهم للغة العربية. يسهل تعلمها واستخدامها للكتابة اليومية.التحديات: الأبجدية العربية القياسية لا تحتوي على حروف لتمثيل بعض الأصوات النوبية الأساسية (مثل /p/, /ŋ/, /ɲ/, /t͡ʃ/) ولا تميز بشكل منهجي بين الصوائت القصيرة والطويلة أو النغمات. يتطلب الأمر تعديل الأبجدية العربية بإضافة نقاط أو علامات على الحروف الموجودة أو ابتكار حروف جديدة (على غرار ما تم في لغات أخرى تستخدم الحرف العربي مثل الفارسية والأردية). تمثيل الصوائت النوبية الخمسة (خاصة القصيرة منها) باستخدام الحركات العربية الثلاث (فتحة، ضمة، كسرة) يمثل تحدياً كبيراً. تمثيل النغمات يكاد يكون مستحيلاً بالحرف العربي التقليدي.أمثلة: تم اقتراح أنظمة عربية معدلة تستخدم حروفاً مثل الپاء (پ) لصوت /p/، أو تراكيب مثل "نج" لصوت /ŋ/ أو "ني" لصوت /ɲ/، أو استخدام علامات تشكيل إضافية للصوائت. على سبيل المثال، قد يتم استخدام الفتحة لـ /a/، والكسرة لـ /e/ و /i/، والضمة لـ /o/ و /u/، مع الحاجة إلى طرق للتمييز بين /e/ و /i/ وبين /o/ و /u/، وللتمييز بين القصير والطويل.
تحديات التوحيد القياسي (Standardization): الاختلافات اللهجية: وجود لهجات متعددة (النوبين، الكنزية، الدنقلاوية) يزيد من صعوبة الاتفاق على نظام كتابة موحد يناسب الجميع. قد يتطلب الأمر تطوير أنظمة كتابة منفصلة قليلاً لكل لهجة رئيسية أو نظام مرن يمكن تكييفه.تمثيل السمات الصوتية المعقدة: تمثيل طول الصائت والنغمات بشكل دقيق وعملي يمثل تحدياً كبيراً لكلا النظامين (اللاتيني والعربي). غالباً ما يتم تجاهل النغمات في أنظمة الكتابة العملية المقترحة لتبسيطها، مما قد يؤدي إلى التباس في المعنى.غياب جهة رسمية موحدة: عدم وجود هيئة لغوية أو أكاديمية نوبية موحدة ومعترف بها عالمياً لوضع معايير للكتابة يعيق عملية التوحيد القياسي.التفضيلات المجتمعية: قد تختلف تفضيلات الناطقين بالنوبية أنفسهم بين استخدام الحروف اللاتينية أو العربية، بناءً على خلفياتهم التعليمية وتجاربهم.
الوضع الحالي: لا يوجد حتى الآن نظام كتابة واحد، سواء لاتيني أو عربي، يحظى بقبول عالمي أو استخدام واسع النطاق لكتابة اللغة النوبية الحديثة. تستخدم المبادرات المختلفة (دورات تعليم اللغة، منشورات ثقافية، مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي) أنظمة كتابة متنوعة، غالباً ما تكون مبنية على أحد الاقتراحات اللاتينية أو العربية المعدلة. لا تزال الجهود مستمرة من قبل اللغويين والنشطاء لتطوير ونشر نظام كتابة عملي ومقبول يمكن استخدامه في التعليم والتوثيق والتواصل اليومي، كوسيلة أساسية للحفاظ على اللغة ونقلها للأجيال القادمة.
اللغة كرمز للهوية النوبية: يعتبر العديد من النوبيين لغتهم مكوناً أساسياً وجوهرياً لهويتهم المتميزة. إنها ما يربطهم بأرضهم التاريخية، وبأجدادهم، وبتاريخهم الحضاري العريق الذي يسبق التأثيرات العربية والإسلامية في المنطقة. في مواجهة ضغوط التجانس الثقافي واللغوي، تصبح اللغة النوبية رمزاً للصمود والخصوصية الثقافية. التحدث بالنوبية هو تأكيد على الانتماء إلى مجموعة لها تاريخها وتقاليدها ونظرتها للعالم. حتى بالنسبة للنوبيين الذين قد لا يتقنون اللغة بشكل كامل (خاصة في الأجيال الشابة أو في المهجر)، فإن اللغة تظل تمثل قيمة رمزية كبيرة، وشعوراً بالارتباط بالجذور. يرتبط اسم "نوبي" ارتباطاً وثيقاً باللغة، فأن تكون نوبياً يعني في كثير من الأحيان أن تكون ناطقاً أو منحداً من جماعة ناطقة باللغة النوبية.
اللغة وعاء للتراث الشفهي: نظرًا لغياب الكتابة المعيارية لفترات طويلة، كان التراث الثقافي النوبي ينتقل بشكل أساسي عبر التقاليد الشفهية، وكانت اللغة النوبية هي الوسيلة الحاملة لهذا التراث. الحكايات الشعبية والأساطير: تزخر الثقافة النوبية بالقصص والحكايات التي تروي تاريخ الممالك القديمة، وأساطير الخلق، وقصص الأبطال المحليين، وحكايات الحيوانات ذات المغزى الأخلاقي. هذه الحكايات تُروى بالنوبية وتحافظ على مفردات وتراكيب وتعابير قديمة.الأمثال والحكم: تعكس الأمثال الشعبية النوبية حكمة الأجداد وخبرتهم في الحياة، وتقدم نصائح وإرشادات حول السلوك الاجتماعي والأخلاق. وهي مصاغة بأسلوب لغوي بليغ وموجز.الأحاجي والألغاز: كانت جزءاً من التسلية والتعليم التقليدي، وتعتمد على التلاعب بالألفاظ والمعاني في اللغة النوبية.
اللغة والشعر والغناء: يلعب الشعر والغناء دوراً محورياً في الثقافة النوبية، واللغة النوبية هي لغة هذا التعبير الفني الأصيل. الشعر النوبي: يتنوع الشعر النوبي بين الأغراض المختلفة: المديح، الرثاء، الغزل، وصف الطبيعة، التعبير عن الشوق والحنين (خاصة بعد التهجير)، والفخر بالتاريخ والتراث. يتميز الشعر النوبي بإيقاعاته وموسيقاه الداخلية الخاصة.الأغاني النوبية: تعتبر الأغاني النوبية، بمصاحبة الآلات التقليدية مثل الطمبور (الكِسِر)، جزءاً لا يتجزأ من المناسبات الاجتماعية والدينية والاحتفالات. تتناول الأغاني مواضيع الحب والفرح والحزن والتاريخ والهوية. ساهم فنانون نوبيون بارزون (مثل حمزة علاء الدين، محمد وردي، محمد منير وغيرهم) في نشر الأغنية النوبية والتعريف باللغة والثقافة النوبية على نطاق أوسع، حتى لو غنى بعضهم بالعربية أيضاً. تحمل كلمات الأغاني النوبية الكثير من المفردات والصور الشعرية التي تعبر عن الوجدان النوبي.
اللغة والحياة اليومية والعادات: تستخدم اللغة النوبية في التفاعلات اليومية داخل الأسرة والمجتمع في المناطق النوبية. ترتبط العديد من العادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية (مثل الزواج، الولادة، الوفاة، الأعياد) بممارسات وطقوس وأغاني وأدعية تتم باللغة النوبية. تنعكس جوانب من الثقافة المادية والاجتماعية في مفردات اللغة، مثل أسماء الأدوات المنزلية التقليدية، وأنواع الزراعة، وأسماء الأماكن، ونظام القرابة والعلاقات الاجتماعية.
تأثير التهجير والتغيرات الاجتماعية: كان لتهجير النوبيين بعد بناء السد العالي تأثير عميق على العلاقة بين اللغة والثقافة والهوية. أدى العيش في بيئات جديدة ومختلطة إلى زيادة استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، خاصة بين الأجيال الشابة، مما هدد بانقطاع انتقال اللغة والثقافة المرتبطة بها. في المقابل، أدى الشعور بالخسارة والحنين إلى الأرض والتراث إلى تعزيز الوعي بأهمية اللغة كرمز للهوية ودافع لجهود الحفاظ عليها وإحيائها في أماكن الاستيطان الجديدة والمهجر.
هيمنة اللغات الوطنية (العربية): تعتبر هيمنة اللغة العربية في كل من مصر والسودان التحدي الأكبر. اللغة العربية هي لغة الدولة الرسمية، ولغة التعليم في جميع المراحل، ولغة الإعلام (المرئي والمسموع والمقروء)، ولغة الإدارة والقضاء، ولغة الدين الأساسية، ولغة التجارة والحياة العامة في المدن. هذا الوضع يقلل بشكل كبير من الحوافز العملية والاقتصادية لاستخدام اللغة النوبية خارج نطاق الأسرة والمجتمع المحلي المباشر. يجد الشباب النوبي أن إتقان اللغة العربية ضروري للنجاح الأكاديمي والمهني، بينما قد يُنظر إلى اللغة النوبية على أنها أقل "فائدة" في هذا السياق.
غياب الاعتراف والدعم الرسمي: لا تحظى اللغة النوبية باعتراف رسمي كلغة وطنية أو إقليمية في دساتير أو قوانين مصر أو السودان (رغم بعض الإشارات العامة إلى التنوع الثقافي). لا يتم تدريس اللغة النوبية بشكل منهجي في المدارس الحكومية في المناطق النوبية. لا توجد مناهج دراسية رسمية أو معلمون مدربون لتدريس اللغة. هناك نقص كبير في الدعم الحكومي للمبادرات التي تهدف إلى الحفاظ على اللغة وتطويرها (مثل تمويل الأبحاث، ودعم المراكز الثقافية النوبية، وتشجيع النشر باللغة النوبية).
التأثير الاجتماعي والاقتصادي (التهجير والهجرة): التهجير القسري: كما ذكر سابقاً، كان لتهجير النوبيين بسبب بناء السد العالي آثار مدمرة. أدى تفكيك المجتمعات التقليدية المتجانسة لغوياً وتوطينهم في بيئات جديدة ومختلطة إلى تسريع التحول نحو اللغة العربية.الهجرة الداخلية والخارجية: يؤدي البحث عن فرص عمل وتعليم أفضل إلى هجرة العديد من النوبيين (خاصة الشباب) من مناطقهم الأصلية إلى المدن الكبرى أو إلى خارج البلاد. في هذه البيئات الجديدة، غالباً ما تكون اللغة العربية أو لغات أخرى هي لغة التواصل السائدة، مما يقلل من فرص استخدام اللغة النوبية ونقلها إلى الجيل التالي.
وسائل الإعلام والتكنولوجيا: تهيمن اللغة العربية بشكل شبه كامل على وسائل الإعلام التقليدية (التلفزيون، الراديو، الصحف). لا يوجد بث إعلامي منتظم وواسع الانتشار باللغة النوبية. على الرغم من أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي توفر فرصاً جديدة للتواصل باللغة النوبية (كما سنرى لاحقاً)، إلا أن المحتوى الرقمي باللغة العربية لا يزال هو المهيمن، ولا تزال هناك تحديات تتعلق بكتابة النوبية على المنصات الرقمية (غياب لوحات مفاتيح قياسية، مشاكل في عرض الخطوط المعدلة).
تغير المواقف اللغوية (Language Attitudes): في بعض الأحيان، قد تتأثر المواقف تجاه اللغة النوبية سلباً. قد ينظر إليها البعض (بشكل خاطئ) على أنها لغة "متخلفة" أو غير مناسبة للعصر الحديث، أو قد يشعر بعض المتحدثين بها بالخجل من استخدامها في الأماكن العامة خوفاً من السخرية أو عدم الفهم. قد يؤدي الزواج المختلط بين النوبيين وغير النوبيين في بعض الحالات إلى عدم انتقال اللغة النوبية إلى الأطفال إذا كانت لغة التواصل الأساسية في المنزل هي العربية. مع ذلك، وكما ذكرنا سابقاً، هناك أيضاً شعور قوي بالفخر باللغة لدى العديد من النوبيين، وهذا الشعور هو الدافع الرئيسي لجهود الحفاظ عليها.
انقطاع انتقال اللغة بين الأجيال (Intergenerational Transmission): يعد توقف أو ضعف انتقال اللغة من الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد أخطر مؤشرات التهديد التي تواجه أي لغة. في العديد من الأسر النوبية، خاصة في المدن والمهجر، لم يعد الآباء يتحدثون النوبية بانتظام مع أطفالهم، إما بسبب عدم إتقانهم لها بأنفسهم، أو لإعطاء الأولوية لتعلم اللغة العربية، أو لعدم وجود بيئة داعمة لاستخدام النوبية. هذا يؤدي إلى تناقص مستمر في عدد المتحدثين الأصليين باللغة، وخاصة بين الشباب والأطفال.
نقص التوثيق والموارد التعليمية: على الرغم من جهود بعض اللغويين، لا يزال هناك نقص في التوثيق الشامل لجميع جوانب اللغة النوبية بلهجاتها المختلفة (خاصة النغمات والتنوع النحوي الدقيق). هناك ندرة في المواد التعليمية الحديثة والجذابة لتعلم اللغة النوبية (مثل القواميس الحديثة، وكتب القواعد المبسطة، وتطبيقات تعلم اللغة، والمواد السمعية والبصرية).
المبادرات المجتمعية والشعبية: دورات تعليم اللغة: يقوم العديد من النشطاء النوبيين بتنظيم دورات وورش عمل تطوعية لتعليم اللغة النوبية (بلهجاتها المختلفة) للأطفال والشباب والكبار، سواء في المناطق النوبية أو في المدن الكبرى والمهجر. تستخدم هذه الدورات غالباً أنظمة كتابة مبسطة (لاتينية أو عربية معدلة) ومواد تعليمية يتم إعدادها محلياً.المراكز والجمعيات الثقافية: تلعب الجمعيات والروابط النوبية دوراً هاماً في الحفاظ على اللغة والثقافة من خلال تنظيم فعاليات ثقافية وفنية تتضمن الشعر والغناء والحكايات باللغة النوبية، وتشجيع استخدام اللغة في أنشطتها.الاحتفاء بالمناسبات الثقافية: يتم استغلال المناسبات الخاصة مثل "اليوم العالمي للغة الأم" أو الفعاليات الثقافية النوبية للتأكيد على أهمية اللغة وتنظيم أنشطة مرتبطة بها.جهود الأسر: هناك وعي متزايد لدى بعض الأسر النوبية بأهمية التحدث باللغة مع أطفالهم في المنزل لخلق جيل جديد من المتحدثين.
الدور الأكاديمي والبحثي: التوثيق اللغوي: يواصل اللغويون والباحثون (النوبيون وغير النوبيين) في الجامعات والمراكز البحثية حول العالم جهودهم لتوثيق اللغة النوبية بلهجاتها المختلفة، وتسجيل الأصوات، وتحليل القواعد، وجمع المفردات، وإعداد القواميس والمعاجم المتخصصة.دراسة النوبية القديمة: يستمر البحث في نصوص النوبية القديمة، مما يساعد على فهم أعمق لتاريخ اللغة وتطورها وعلاقتها باللهجات الحديثة.دراسة اللهجات المختلفة: يتم التركيز بشكل متزايد على دراسة اللهجات الأقل شهرة أو الأكثر تعرضاً للخطر، مثل لغات نوبة الجبال أو توثيق ما تبقى من لغة البرقد قبل اندثارها.تطوير أنظمة الكتابة: يساهم اللغويون في اقتراح وتحسين أنظمة الكتابة للغة النوبية الحديثة، ومناقشة أفضل الطرق لتمثيل أصواتها وخصائصها الفريدة.
استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي: الإنترنت والويب: ظهرت العديد من المواقع والمدونات والمنتديات المخصصة للغة والثقافة النوبية، والتي تنشر مقالات ومعلومات ومواد تعليمية باللغة النوبية أو عنها.وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتساب، يوتيوب...): أصبحت هذه المنصات أدوات حيوية للتواصل بين النوبيين حول العالم، ولتبادل المعرفة حول اللغة، ونشر مقاطع فيديو تعليمية أو ثقافية، وتنظيم المبادرات. يتم استخدام أنظمة كتابة غير رسمية (لاتينية أو عربية معدلة) بشكل شائع في هذه المنصات.تطبيقات الهواتف الذكية: بدأت تظهر بعض التطبيقات التعليمية البسيطة لتعلم المفردات والعبارات الأساسية في اللغة النوبية.رقمنة التراث: هناك جهود لرقمنة المخطوطات النوبية القديمة والتسجيلات الصوتية والمواد الثقافية الأخرى لجعلها متاحة للباحثين والجمهور بشكل أوسع.
الفنون والإعلام: الموسيقى والأغاني: يواصل الفنانون النوبيون لعب دور مهم في الحفاظ على اللغة حية من خلال إنتاج أغانٍ باللغة النوبية ونشرها على نطاق واسع.الأفلام الوثائقية والقصيرة: يتم إنتاج بعض الأفلام التي توثق حياة النوبيين وتتضمن حوارات باللغة النوبية، مما يساهم في زيادة الوعي بها.المبادرات الإعلامية المحدودة: تظهر أحياناً مبادرات لإنتاج برامج إذاعية أو تلفزيونية قصيرة أو فقرات باللغة النوبية، وإن كانت لا تزال محدودة الانتشار.
الدعوات للحقوق اللغوية والثقافية: يطالب النشطاء النوبيون بشكل متزايد بالاعتراف الرسمي باللغة النوبية وبحقوق النوبيين اللغوية والثقافية، بما في ذلك الحق في تعلم لغتهم الأم في المدارس، والحصول على دعم حكومي للمبادرات الثقافية واللغوية. يتم ربط قضية اللغة بقضايا أوسع تتعلق بحقوق النوبيين في أرضهم وتاريخهم وتعويضهم عن آثار التهجير.
التحديات أمام جهود الإحياء: نقص التمويل والموارد: تعاني معظم المبادرات المجتمعية والأكاديمية من نقص حاد في التمويل والموارد البشرية والمادية اللازمة لتحقيق أهدافها على نطاق واسع.غياب التنسيق: قد تكون الجهود مبعثرة أحياناً وتفتقر إلى التنسيق بين المجموعات والمبادرات المختلفة.صعوبة الوصول: قد يكون من الصعب الوصول إلى بعض المناطق النوبية النائية لتوثيق اللغة أو تقديم الدعم.مقاومة التغيير: قد يواجه تطوير أنظمة كتابة جديدة أو إدخال اللغة في مجالات جديدة بعض المقاومة أو عدم الاهتمام من قبل بعض أفراد المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق