كتاب "Rise and Kill First": التاريخ السري لاغتيالات إسرائيل المستهدفة
المحاور الرئيسية التي غطتها المقالة:
- مقدمة شاملة عن الكتاب ومؤلفه
- منهجية البحث والمصادر التي اعتمد عليها المؤلف
- البنية التنظيمية للكتاب والأطروحة المركزية
- التطور التاريخي لبرامج الاغتيالات الإسرائيلية
- الأجهزة المنفذة (الموساد، الشاباك، الوحدات الخاصة)
- تقنيات وطرق الاغتيال وتطورها عبر العقود
- أشهر العمليات مثل عملية "غضب الله" واغتيال أبو جهاد
- التأثيرات والتداعيات على الشرق الأوسط والقانون الدولي
- الجدل الأخلاقي والقانوني المحيط بالكتاب
- فعالية السياسة من النواحي التكتيكية والاستراتيجية
- دور الحلفاء الدوليين خاصة الولايات المتحدة
- نقد المنهجية والتأثير الثقافي
- المقارنة مع الأعمال المماثلة
- الدروس المستفادة والتقييم الشامل
المقالة تقدم نظرة متوازنة وموضوعية على هذا العمل المهم، مع التركيز على التحليل العلمي والنقدي لمحتوى الكتاب ومنهجيته وتأثيره على الأدب الأكاديمي والنقاش العام حول قضايا الأمن القومي والاستخبارات.
مقدمة
في عالم الأدب الوثائقي المعاصر، قلّما نجد أعمالاً تسلط الضوء على الجانب المظلم والسري من عمليات الاستخبارات الدولية بالعمق والشمولية التي يقدمها كتاب "Rise and Kill First: The Secret History of Israel's Targeted Assassinations" للكاتب والصحفي الاستقصائي الإسرائيلي رونين بيرغمان. هذا العمل الضخم، الذي صدر في عام 2018، يُعتبر أول تاريخ شامل ومفصل لبرامج الاغتيالات المستهدفة التي نفذتها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة وحتى العصر الحديث.
يحمل العنوان في طياته إشارة مباشرة إلى المبدأ التلمودي القديم الذي ينص على "إذا جاء أحدهم ليقتلك، انهض واقتله أولاً"، وهو مبدأ ديني يهودي اتخذته إسرائيل كمبرر أخلاقي ومفاهيمي لسياسة الاغتيالات الاستباقية. يقدم بيرغمان في هذا العمل الموسوعي نظرة عميقة ومفصلة على ما يصفه بأنه أكبر برنامج للاغتيالات المستهدفة في العالم الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
الكاتب: رونين بيرغمان - مراسل الاستخبارات الأبرز في إسرائيل
رونين بيرغمان ليس مجرد صحفي عادي، بل يُعتبر من أبرز المراسلين الاستقصائيين في مجال الشؤون العسكرية والاستخبارية في إسرائيل. يعمل بيرغمان كمراسل أول للشؤون العسكرية والاستخبارية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكبر الصحف اليومية في إسرائيل، كما يكتب بانتظام في مجلة "نيويورك تايمز" حول قضايا الاستخبارات والأمن القومي والإرهاب والقضايا النووية.
خبرة بيرغمان الطويلة في تغطية الشؤون الأمنية والاستخبارية، إضافة إلى علاقاته الواسعة داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، مكّنته من الوصول إلى مصادر ومعلومات لم تكن متاحة للباحثين والصحفيين السابقين. وقد وُصف من قبل ديفيد رمنيك، رئيس تحرير مجلة "نيويوركر"، بأنه "أفضل صحفي استقصائي في إسرائيل".
تميز بيرغمان في مقاربته البحثية بالموضوعية النسبية والحيادية المهنية، حيث لم يسعَ إلى إصدار أحكام أخلاقية مسبقة، بل ركز على توثيق الوقائع والأحداث بطريقة شاملة ودقيقة، مما منح كتابه مصداقية أكاديمية وصحفية عالية.
منهجية البحث والمصادر
ما يميز كتاب "Rise and Kill First" عن غيره من الأعمال التي تناولت نشاطات الاستخبارات الإسرائيلية هو المنهجية البحثية الصارمة والشاملة التي اتبعها بيرغمان. فقد أجرى المؤلف أكثر من ألف مقابلة مع شخصيات سياسية وعملاء استخبارات سابقين وحاليين، بما في ذلك رؤساء وزراء سابقون، ومدراء أجهزة استخبارية، وضباط عسكريون رفيعو المستوى، وعملاء ميدانيون.
لم تقتصر مصادر بيرغمان على المقابلات الشخصية فحسب، بل استند أيضاً إلى "آلاف" الوثائق السرية والتقارير الرسمية والمذكرات الداخلية للأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية. هذا الكم الهائل من المعلومات الموثقة منح الكتاب عمقاً تاريخياً ودقة في التفاصيل لم تكن متاحة في الأعمال السابقة.
كما اعتمد المؤلف على مصادر أرشيفية من مختلف الدول، ووثائق محفوظة في أرشيف الدولة الإسرائيلية، ومراجع أكاديمية وأعمال صحفية سابقة، مما ساعده في بناء صورة شاملة ومتماسكة عن تاريخ الاغتيالات المستهدفة الإسرائيلية.
إن هذا المنهج البحثي الشامل والدقيق جعل من الكتاب مرجعاً أساسياً للباحثين والأكاديميين وصناع السياسة المهتمين بفهم آليات عمل الاستخبارات الحديثة والسياسات الأمنية الإسرائيلية.
البنية التنظيمية للكتاب
يتألف كتاب "Rise and Kill First" من 753 صفحة مقسمة إلى فصول تسير بشكل زمني تاريخي، بدءاً من فترة ما قبل تأسيس دولة إسرائيل وحتى العصر الحديث. يتبع المؤلف منهجاً سردياً تاريخياً يجمع بين التحليل الأكاديمي والسرد الصحفي المشوق، مما يجعل من الكتاب عملاً قابلاً للقراءة من قبل الجمهور العام والمتخصصين على حد سواء.
ينقسم الكتاب إلى عدة أقسام رئيسية تغطي حقب تاريخية مختلفة:
القسم الأول: البدايات المبكرة (1948-1967) يغطي هذا القسم الفترة من تأسيس دولة إسرائيل وحتى حرب الأيام الستة، ويركز على تشكيل الأجهزة الاستخبارية الأولى وأول عمليات الاغتيال المنظمة.
القسم الثاني: فترة التوسع والاحتلال (1967-1987) يتناول هذا القسم تطور برامج الاغتيال بعد احتلال الضفة الغربية وغزة، وكيف تأثرت استراتيجية الاغتيالات بالواقع الجغرافي والسياسي الجديد.
القسم الثالث: الانتفاضات والتحديات الجديدة (1987-2000) يركز على كيفية تكيف الأجهزة الاستخبارية مع ظهور الانتفاضة الفلسطينية الأولى ونشوء منظمات مقاومة جديدة.
القسم الرابع: العصر الحديث والتقنيات المتطورة (2000-2018) يستعرض أحدث تقنيات الاغتيال المستهدف، بما في ذلك استخدام الطائرات بدون طيار والحرب السيبرانية.
الأطروحة المركزية للكتاب
الأطروحة المركزية لكتاب بيرغمان تقوم على فكرة أن سياسة الاغتيالات المستهدفة شكلت العمود الفقري للاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة. يجادل المؤلف بأن إسرائيل اغتالت أشخاصاً أكثر من أي دولة غربية أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، وأن هذه السياسة لم تكن مجرد تكتيك عسكري مؤقت، بل استراتيجية شاملة ومدروسة لإدارة التهديدات الأمنية.
يطرح بيرغمان فكرة أن برامج الاغتيالات المستهدفة لعبت دوراً محورياً في تشكيل ليس فقط السياسة الإسرائيلية، بل أيضاً المشهد السياسي في الشرق الأوسط والعالم بشكل أوسع. فهذه السياسة، وفقاً للمؤلف، أثرت على ديناميكيات الصراع الإقليمي، وساهمت في تشكيل استراتيجيات المقاومة لدى الحركات المناوئة لإسرائيل، كما أثرت على السياسات الأمنية للدول الأخرى.
كما يبين المؤلف أن هذه السياسة لم تقتصر على الأهداف الفلسطينية فحسب، بل امتدت لتشمل مسؤولين من دول عربية، وعلماء نوويين إيرانيين، وقادة من حزب الله اللبناني، ومسؤولين من حركة حماس، بل وحتى مسؤولين بريطانيين في فترات معينة من التاريخ.
التطور التاريخي لبرامج الاغتيالات
البدايات المبكرة: من الهاغاناه إلى الموساد
يتتبع بيرغمان جذور سياسة الاغتيالات الإسرائيلية إلى فترة ما قبل تأسيس الدولة، عندما كانت منظمات مثل الهاغاناه والإرغون وليحي تمارس عمليات اغتيال ضد البريطانيين والعرب. هذه المنظمات شبه العسكرية وضعت الأسس المفاهيمية والعملياتية لما سيصبح لاحقاً برامج اغتيال منظمة على مستوى الدولة.
مع تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، تم دمج هذه المنظمات وخبراتها في الهياكل الرسمية للدولة الجديدة. تأسس جهاز الموساد رسمياً عام 1951، وجهاز الشاباك (الأمن الداخلي) عام 1948، وكلاهما ورث التقاليد والمنهجيات التي طورتها المنظمات السابقة.
يصف بيرغمان كيف أن هذه الأجهزة الوليدة واجهت تحديات كبيرة في البداية، حيث افتقرت إلى الخبرة المؤسسية والموارد الكافية. لكن مع مرور الوقت، تطورت هذه الأجهزة لتصبح من أكثر أجهزة الاستخبارات فعالية في العالم.
فترة الستينيات والسبعينيات: العمليات الدولية
خلال فترة الستينيات والسبعينيات، بدأت برامج الاغتيالات الإسرائيلية تأخذ بعداً دولياً أوسع. فبعد حرب الأيام الستة عام 1967، واجهت إسرائيل تحديات جديدة تمثلت في نشوء منظمات فلسطينية مسلحة تعمل من خارج الأراضي المحتلة.
أحد أبرز الأحداث في هذه الفترة كان رد إسرائيل على مذبحة الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونخ عام 1972. يوثق بيرغمان بالتفصيل عملية "غضب الله" (Wrath of God)، وهي حملة اغتيالات واسعة النطاق استهدفت أعضاء منظمة أيلول الأسود الفلسطينية ومسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية عبر أوروبا والشرق الأوسط.
هذه العمليات، رغم نجاحها الجزئي، واجهت أيضاً إخفاقات مدوية، مثل اغتيال مواطن مغربي بريء في ليلهامر بالنرويج عام 1973، مما أدى إلى اعتقال عدد من عملاء الموساد وخلق أزمة دبلوماسية كبيرة.
الثمانينيات والتسعينيات: التكيف مع التحديات الجديدة
مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، واجهت إسرائيل نوعاً جديداً من التحدي الأمني. لم تعد تواجه منظمات تعمل من الخارج فحسب، بل حركة شعبية واسعة داخل الأراضي المحتلة. هذا التحول تطلب تكييف استراتيجيات الاغتيال لتتناسب مع الواقع الجديد.
يوثق بيرغمان كيف تطورت تقنيات الاغتيال خلال هذه الفترة، بما في ذلك استخدام السيارات المفخخة، والقنابل الذكية، والطائرات الهليكوبتر المسلحة. كما يصف نشوء وحدات خاصة مدربة تدريباً عالياً لتنفيذ عمليات الاغتيال في بيئات حضرية معقدة.
هذه الفترة شهدت أيضاً تطوير عقيدة "الاغتيال الوقائي"، حيث لم تعد إسرائيل تكتفي بالرد على الهجمات، بل بدأت تستهدف أشخاصاً يُشتبه في تخطيطهم لهجمات مستقبلية.
الأجهزة المنفذة: الموساد والشاباك ووحدات النخبة
جهاز الموساد: الذراع الخارجية
يعتبر الموساد الجهاز المسؤول الرئيسي عن عمليات الاغتيال خارج إسرائيل والأراضي المحتلة. يصف بيرغمان بالتفصيل كيف تطور هذا الجهاز من منظمة صغيرة تفتقر إلى الموارد في الخمسينيات إلى واحد من أكثر أجهزة الاستخبارات تطوراً في العالم.
يقدم الكتاب نظرة داخلية نادرة على هيكل الموساد وطرق عمله، بما في ذلك كيفية تجنيد العملاء، وطرق التخفي والتمويه، وتقنيات الاغتيال المختلفة. كما يكشف عن الصراعات الداخلية والخلافات الاستراتيجية التي نشأت داخل الجهاز حول فعالية وأخلاقية برامج الاغتيال.
من أبرز العمليات التي ينسبها بيرغمان للموساد اغتيال العلماء المصريين العاملين في برنامج الصواريخ المصري في الستينيات، واغتيال مسؤولين من منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا، والعمليات الأخيرة ضد العلماء النوويين الإيرانيين.
جهاز الشاباك: الأمن الداخلي
بينما يركز الموساد على العمليات الخارجية، يختص جهاز الشاباك بالأمن الداخلي وعمليات الاغتيال داخل إسرائيل والأراضي المحتلة. يوثق بيرغمان كيف تطور دور هذا الجهاز خاصة بعد احتلال الضفة الغربية وغزة عام 1967.
يصف الكتاب بالتفصيل كيف طور الشاباك شبكات واسعة من المخبرين والعملاء داخل المجتمع الفلسطيني، وكيف استخدم هذه الشبكات لتحديد أهداف الاغتيال وتنفيذ العمليات. كما يكشف عن استخدام الجهاز لتقنيات متقدمة مثل الاغتيال عن بعد باستخدام الهواتف المحمولة المفخخة.
من أبرز عمليات الشاباك التي يوثقها بيرغمان اغتيال قادة الانتفاضة الأولى والثانية، واستهداف كوادر حماس والجهاد الإسلامي، والعمليات ضد قادة عسكريين فلسطينيين.
الوحدات العسكرية الخاصة
إضافة إلى الأجهزة الاستخبارية، يوثق بيرغمان دور الوحدات العسكرية الخاصة في تنفيذ عمليات الاغتيال. هذه الوحدات، مثل الوحدة 269 (سييرت ماتكال) ووحدة الكوماندوز البحري (شايطيت 13)، تخصصت في المهام عالية المخاطر التي تتطلب دقة عسكرية فائقة.
يصف المؤلف كيف تدربت هذه الوحدات على تقنيات قتال متقدمة واستخدام أسلحة متطورة، وكيف تعاونت مع الأجهزة الاستخبارية لتنفيذ عمليات معقدة في بيئات معادية. من أبرز هذه العمليات اغتيال أبو جهاد في تونس عام 1988، وعمليات مختلفة في غزة والضفة الغربية ولبنان.
تقنيات وطرق الاغتيال
التطور التقني عبر العقود
يقدم بيرغمان استعراضاً مفصلاً لتطور تقنيات الاغتيال المستخدمة من قبل الأجهزة الإسرائيلية عبر العقود. في البدايات المبكرة، اعتمدت العمليات على طرق تقليدية نسبياً مثل إطلاق النار المباشر أو الطعن بالسكاكين. لكن مع تطور التكنولوجيا والحاجة إلى دقة أكبر، تطورت هذه التقنيات بشكل درامي.
في الستينيات والسبعينيات، بدأ استخدام المتفجرات المخفية، مثل القنابل في السيارات أو الطرود المفخخة. هذه التقنيات سمحت بتنفيذ عمليات من مسافة آمنة، لكنها كانت أقل دقة وأكثر خطراً على المدنيين الأبرياء.
مع دخول الثمانينيات والتسعينيات، شهدت تقنيات الاغتيال ثورة حقيقية. بدأ استخدام الليزر لتوجيه الصواريخ بدقة عالية، واستخدام تقنيات التنصت المتقدمة لتتبع الأهداف، وتطوير متفجرات أكثر تطوراً وانتقائية.
عصر التكنولوجيا المتقدمة
مع دخول القرن الحادي والعشرين، وصلت تقنيات الاغتيال الإسرائيلية إلى مستويات من التطور لم تكن متخيلة من قبل. يوثق بيرغمان استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة بصواريخ موجهة بالليزر، وتقنيات الحرب السيبرانية، والأسلحة البيولوجية والكيميائية في حالات نادرة.
من أبرز الأمثلة التي يذكرها الكتاب استخدام الهواتف المحمولة كأجهزة تفجير، حيث يتم زرع متفجرات صغيرة في الهاتف، ثم تفجيرها عن بعد عندما يرد الهدف على مكالمة معينة. هذه التقنية استُخدمت بنجاح ضد عدد من قادة حماس والجهاد الإسلامي.
كما يصف الكتاب تطوير ما يُسمى بـ"الاغتيال الجراحي"، حيث تستهدف العملية شخصاً محدداً بدقة شديدة دون إلحاق ضرر بالأشخاص المحيطين. هذا النوع من العمليات يتطلب استخباراً دقيقاً وتقنيات متطورة جداً.
الحرب السيبرانية كأداة اغتيال
أحد أكثر الجوانب إثارة في كتاب بيرغمان هو توثيقه لاستخدام إسرائيل للحرب السيبرانية كأداة اغتيال. يكشف الكتاب عن عمليات سيبرانية معقدة استهدفت البنية التحتية للدول المعادية والمنظمات المناوئة.
أبرز مثال على ذلك هو فيروس "ستكسنت" (Stuxnet) الذي استهدف برنامج إيران النووي وتسبب في تدمير أجهزة الطرد المركزي في منشآتها النووية. رغم أن هذا لم يكن اغتيالاً بالمعنى التقليدي، إلا أنه يمثل نوعاً جديداً من "الاغتيال التكنولوجي" الذي يستهدف قدرات استراتيجية بدلاً من أشخاص محددين.
كما يوثق الكتاب محاولات لاستخدام الحرب السيبرانية لاستهداف أنظمة الدفاع الجوي والاتصالات في دول معادية، بهدف تمهيد الطريق لعمليات اغتيال تقليدية أو تعطيل قدرات العدو على الرد.
أشهر العمليات والاغتيالات
عملية "غضب الله" - رد إسرائيل على ميونخ
من أشهر حملات الاغتيال التي يوثقها بيرغمان بالتفصيل عملية "غضب الله"، التي انطلقت كرد على مذبحة الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونخ 1972. هذه العملية، التي استمرت لسنوات، استهدفت أعضاء منظمة أيلول الأسود ومسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية في مختلف أنحاء أوروبا والعالم العربي.
يكشف بيرغمان عن تفاصيل مثيرة حول كيفية تخطيط وتنفيذ هذه العمليات، بما في ذلك كيفية تتبع الأهداف، وبناء الهويات المزيفة للعملاء، وتنسيق العمليات عبر دول متعددة. كما يوثق الإخفاقات التي واجهتها العملية، مثل الخطأ المأساوي في ليلهامر بالنرويج.
هذه العملية تُعتبر نقطة تحول في تاريخ الاغتيالات الإسرائيلية، حيث أظهرت قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات معقدة على نطاق عالمي، لكنها أيضاً كشفت المخاطر والتكلفة السياسية لمثل هذه العمليات.
اغتيال أبو جهاد في تونس 1988
يخصص بيرغمان فصلاً مفصلاً لتوثيق عملية اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس عام 1988، والتي تُعتبر واحدة من أكثر عمليات الاغتيال تعقيداً ودقة في التاريخ الإسرائيلي. أبو جهاد كان نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والمسؤول عن الملف العسكري للمنظمة.
العملية تطلبت تخطيطاً دقيقاً امتد لشهور، وتضمنت مراقبة مستمرة لمنزل أبو جهاد في تونس، ودراسة عاداته اليومية، وتحديد أفضل طريقة للوصول إليه. يصف بيرغمان كيف استخدمت إسرائيل فريقاً من وحدة النخبة "سييرت ماتكال" للتسلل إلى تونس عبر البحر، والتوغل في العمق التونسي، وتنفيذ العملية بدقة عالية.
ما يجعل هذه العملية مميزة ليس فقط نجاحها التكتيكي، بل أيضاً تأثيرها الاستراتيجي الواسع. اغتيال أبو جهاد أضعف بشكل كبير القدرات العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وساهم في تحييد التهديد الذي كان يشكله على إسرائيل خلال فترة الانتفاضة الأولى.
الحملة ضد العلماء النوويين الإيرانيين
من أبرز الحملات الحديثة التي يوثقها الكتاب الحملة المنظمة ضد علماء البرنامج النووي الإيراني، والتي بدأت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يكشف بيرغمان عن تفاصيل مثيرة حول كيفية تحديد إسرائيل للعلماء المفتاحيين في البرنامج الإيراني، وتطوير استراتيجية شاملة لاستهدافهم.
العمليات ضد العلماء الإيرانيين تنوعت في أساليبها، من السيارات المفخخة إلى القتل المباشر، ومن الحرب السيبرانية إلى التخريب المباشر للمنشآت. أبرز هذه العمليات كان اغتيال مسعود علي محمدي عام 2010، ومجيد شهرياري في نفس العام، وأحمد رضا داود عام 2023.
هذه الحملة تُظهر تطور الاستراتيجية الإسرائيلية من استهداف الأفراد إلى استهداف القدرات الاستراتيجية للعدو بشكل شامل. كما تُظهر قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات معقدة في عمق الأراضي الإيرانية رغم العداء الشديد بين البلدين.
استهداف قيادات حماس والجهاد الإسلامي
يوثق بيرغمان بشكل مفصل الحملة الطويلة التي شنتها إسرائيل ضد قيادات حركة حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني منذ نشوء هذه الحركات في أواخر الثمانينيات. هذه الحملة، التي استمرت لعقود، شهدت تطوراً مستمراً في التكتيكات والتقنيات المستخدمة.
من أبرز هذه العمليات اغتيال الشيخ أحمد ياسين، المؤسس الروحي لحماس، في غزة عام 2004، والذي تم بصاروخ من طائرة هليكوبتر. كما يوثق الكتاب اغتيال عبد العزيز الرنتيسي، خليفة ياسين في قيادة الحركة، بعد شهر واحد فقط من اغتيال ياسين.
هذه العمليات تُظهر الاستراتيجية الإسرائيلية في "قص رؤوس" الحركات المقاومة من خلال استهداف قياداتها بشكل منهجي. لكن بيرغمان يُظهر أيضاً كيف أن هذه الاستراتيجية لم تحقق دائماً النتائج المرجوة، حيث كانت هذه الحركات تُطور آليات خلافة سريعة وتتكيف مع فقدان قياداتها.
عمليات في أوروبا: بين النجاح والفشل
يخصص بيرغمان جانباً مهماً من كتابه لتوثيق العمليات التي نفذتها إسرائيل في أوروبا، والتي تنوعت بين نجاحات باهرة وإخفاقات مدوية. هذه العمليات تُظهر التحديات الخاصة التي تواجه الأجهزة الاستخبارية عند العمل في بيئات مفتوحة ومراقبة من قبل أجهزة استخبارات غربية متطورة.
من أبرز النجاحات عملية اغتيال واصل ضرغان في باريس عام 1972، والذي كان مسؤولاً عن التخطيط لهجمات ضد أهداف إسرائيلية في أوروبا. العملية تمت بدقة عالية دون ترك أدلة تقود إلى إسرائيل.
لكن أبرز الإخفاقات كان في ليلهامر بالنرويج عام 1973، حيث قتل فريق من الموساد مواطناً مغربياً بريئاً اعتقاداً منهم أنه علي حسن سلامة، أحد قادة أيلول الأسود. هذا الخطأ المأساوي أدى إلى اعتقال ستة من عملاء الموساد وخلق أزمة دبلوماسية كبيرة مع النرويج.
التأثيرات والتداعيات
التأثير على الشرق الأوسط
يحلل بيرغمان بعمق التأثيرات الواسعة لسياسة الاغتيالات الإسرائيلية على المشهد السياسي في الشرق الأوسط. فهذه السياسة لم تؤثر فقط على الأهداف المباشرة، بل على ديناميكيات الصراع الإقليمي بأكمله.
من جهة، ساهمت هذه السياسة في إضعاف القدرات العسكرية والتنظيمية للحركات والدول المعادية لإسرائيل. فاغتيال القادة والخبراء المفتاحيين خلق فجوات في القيادة وأرغم هذه الجهات على تركيز جزء كبير من مواردها على الحماية الشخصية بدلاً من التركيز على العمليات الهجومية.
لكن من جهة أخرى، هذه السياسة أدت إلى ردود أفعال عنيفة وخلقت دوامة من العنف المتبادل. كما ساهمت في تطوير ثقافة "الاستشهاد" في المجتمعات المستهدفة، حيث أصبح قادة الحركات المقاومة يُنظر إليهم كشهداء، مما زاد من شعبيتهم وتأثيرهم حتى بعد موتهم.
تطوير تقنيات الحماية والأمن
أدت السياسة الإسرائيلية في الاغتيالات إلى تطوير تقنيات متطورة للحماية الشخصية والأمن التنظيمي من قبل الجهات المستهدفة. يوثق بيرغمان كيف طورت منظمات مثل حماس وحزب الله أنظمة أمنية معقدة لحماية قياداتها، بما في ذلك استخدام أنفاق سرية، وأنظمة اتصال مشفرة، وبروتوكولات أمنية صارمة.
هذا التطور المستمر في تقنيات الحماية أجبر الأجهزة الإسرائيلية بدورها على تطوير تقنيات أكثر تطوراً للاختراق والاغتيال، مما خلق سباق تقني مستمر بين الطرفين.
كما ساهمت هذه التجربة في تطوير "صناعة الأمن الشخصي" في الشرق الأوسط، حيث أصبحت خدمات الحماية الشخصية والاستشارات الأمنية صناعة مزدهرة في المنطقة.
التأثير على القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية
سياسة الاغتيالات الإسرائيلية أثرت بشكل كبير على التفسيرات والممارسات المتعلقة بالقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بقضايا السيادة الوطنية والقانون الدولي الإنساني. فتنفيذ عمليات اغتيال في أراضي دول ثالثة دون إذن من حكوماتها يُعتبر انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية.
لكن إسرائيل طورت مبررات قانونية وأخلاقية لهذه الممارسات، تستند إلى مفاهيم "الدفاع عن النفس الاستباقي" و"الحرب على الإرهاب". هذه المبررات أثرت لاحقاً على السياسات الأمنية للعديد من الدول، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
يُظهر بيرغمان كيف أن السياسة الإسرائيلية ساهمت في تطبيع فكرة الاغتيالات المستهدفة كأداة مقبولة في السياسة الدولية، حيث تبنت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية سياسات مماثلة في إطار "الحرب على الإرهاب".
الجدل الأخلاقي والقانوني
المبررات الأخلاقية الإسرائيلية
يستعرض بيرغمان بتفصيل كبير المبررات الأخلاقية والقانونية التي تستند إليها إسرائيل لتبرير سياسة الاغتيالات المستهدفة. هذه المبررات تتجذر في المفهوم الديني اليهودي "إذا جاء أحدهم ليقتلك، انهض واقتله أولاً"، والذي يُفسر كمبدأ للدفاع عن النفس الاستباقي.
كما تستند إسرائيل إلى مفهوم أن الأشخاص الذين تستهدفهم هم "مقاتلون غير نظاميين" يشكلون تهديداً مباشراً وحالاً على أمنها، وبالتالي فإن استهدافهم يُعتبر عملاً دفاعياً مشروعاً. هذا المفهوم يتجاوز التقسيمات التقليدية بين المدنيين والعسكريين في القانون الدولي الإنساني.
إسرائيل تجادل أيضاً بأن سياسة الاغتيالات تُقلل في الواقع من عدد الضحايا المدنيين مقارنة بالعمليات العسكرية التقليدية، حيث أن الاستهداف الدقيق لقادة وخططي العمليات الإرهابية يمنع تنفيذ هجمات قد تودي بحياة عدد أكبر من الأبرياء.
الانتقادات والاعتراضات الدولية
على الجانب الآخر، يوثق بيرغمان الانتقادات الواسعة التي تواجهها السياسة الإسرائيلية من قبل المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان والقانونيين الدوليين. هؤلاء النقاد يجادلون بأن سياسة الاغتيالات تنتهك مبادئ أساسية في القانون الدولي.
أولاً، هناك انتهاك واضح لسيادة الدول عندما تنفذ إسرائيل عمليات اغتيال في أراضيها دون إذن. ثانياً، هناك انتهاك لمبدأ "الإجراءات القانونية الواجبة" (Due Process)، حيث يتم قتل أشخاص دون محاكمة أو إثبات قانوني لذنبهم.
ثالثاً، يرى النقاد أن سياسة الاغتيالات تخلق سابقة خطيرة يمكن أن تستخدمها دول أخرى لتبرير اغتيال مواطنيها أو مواطني دول أخرى بحجة "مكافحة الإرهاب". هذا يمكن أن يؤدي إلى انهيار النظام القانوني الدولي وسيادة قانون الغاب.
التأثير على المجتمع الإسرائيلي
يتطرق بيرغمان أيضاً إلى التأثيرات الداخلية لسياسة الاغتيالات على المجتمع الإسرائيلي نفسه. فهذه السياسة خلقت جدلاً واسعاً داخل إسرائيل بين مؤيدين ومعارضين، كما أثرت على الثقافة السياسية والأمنية للدولة.
من جهة، هناك قطاع واسع من المجتمع الإسرائيلي يدعم هذه السياسة باعتبارها ضرورية لحماية أمن إسرائيل في بيئة عدائية. هؤلاء يرون أن الاغتيالات المستهدفة هي بديل أكثر إنسانية عن الحروب الشاملة والعمليات العسكرية واسعة النطاق.
لكن من جهة أخرى، هناك أيضاً معارضة داخلية لهذه السياسة، تأتي من قطاعات مختلفة بما في ذلك بعض ضباط الاستخبارات السابقين وأكاديميين وناشطي حقوق إنسان. هؤلاء يجادلون بأن سياسة الاغتيالات تضر بالصورة الدولية لإسرائيل وتعرضها لمخاطر قانونية وسياسية.
فعالية السياسة: النجاحات والإخفاقات
المقاييس التكتيكية للنجاح
من الناحية التكتيكية البحتة، يُظهر بيرغمان أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية حققت نجاحاً كبيراً في تحقيق أهدافها المباشرة. فنسبة نجاح العمليات كانت عالية جداً، حيث تمكنت الأجهزة الإسرائيلية من قتل الغالبية العظمى من الأهداف التي حددتها.
كما نجحت هذه السياسة في تعطيل العديد من العمليات الإرهابية المخطط لها، وإضعاف القدرات التنظيمية للحركات المعادية لإسرائيل. اغتيال قادة مفتاحيين أدى في كثير من الأحيان إلى تفكك أو إضعاف التنظيمات التي ينتمون إليها.
من ناحية أخرى، ساهمت هذه السياسة في خلق رادع قوي ضد من يفكر في استهداف إسرائيل، حيث أصبح معروفاً أن إسرائيل ستسعى للانتقام من أي شخص يهاجمها أينما كان ومهما استغرق ذلك من وقت.
الإخفاقات الاستراتيجية
لكن على المستوى الاستراتيجي الأوسع، تُظهر الأدلة التي يقدمها بيرغمان صورة أكثر تعقيداً. فرغم النجاحات التكتيكية، لم تنجح سياسة الاغتيالات في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأكبر وهو القضاء على التهديدات الأمنية التي تواجه إسرائيل.
بدلاً من ذلك، خلقت هذه السياسة في كثير من الأحيان دوامة من العنف المتبادل، حيث ردت الحركات المستهدفة بهجمات انتقامية أدت إلى قتل مدنيين إسرائيليين. كما أن اغتيال القادة لم يؤدِ دائماً إلى انهيار التنظيمات، بل في بعض الحالات عززها من خلال خلق "شهداء" يلهمون أجيالاً جديدة من المقاتلين.
أحد أبرز الأمثلة على هذا الإخفاق الاستراتيجي هو اغتيال الشيخ أحمد ياسين عام 2004، والذي بدلاً من إضعاف حماس، ساهم في تعزيز شعبية الحركة وحشد التأييد الشعبي الفلسطيني حولها.
التكلفة السياسية والدبلوماسية
كما يوثق بيرغمان التكلفة السياسية والدبلوماسية الباهظة لسياسة الاغتيالات. فالعديد من العمليات، خاصة تلك التي نُفذت في أراضي دول حليفة، أدت إلى أزمات دبلوماسية وتضررت العلاقات مع دول مهمة.
حادثة ليلهامر في النرويج عام 1973 مثال واضح على هذا، حيث أدت إلى تدهور العلاقات الإسرائيلية-النرويجية لسنوات. كما أن تنفيذ عمليات في دول أوروبية دون إذن حكوماتها خلق توتراً مستمراً في العلاقات مع هذه الدول.
أحدث مثال على ذلك كان اغتيال محمود المبحوح في دبي عام 2010، والذي أدى إلى أزمة دبلوماسية مع الإمارات وعدد من الدول الأوروبية بعد كشف استخدام جوازات سفر مزورة لمواطني هذه الدول.
تطور التقنيات والأساليب
من البساطة إلى التعقيد التقني
يقدم بيرغمان استعراضاً شاملاً لتطور التقنيات والأساليب المستخدمة في عمليات الاغتيال عبر العقود. في البدايات المبكرة للخمسينيات والستينيات، كانت الأساليب بسيطة نسبياً وتعتمد على القتل المباشر بالأسلحة النارية أو الطعن بالسكاكين.
مع تطور التكنولوجيا ونمو خبرة الأجهزة الإسرائيلية، بدأت الأساليب تصبح أكثر تطوراً وتعقيداً. في السبعينيات والثمانينيات، شهدت العمليات استخداماً متزايداً للمتفجرات المخفية في السيارات والطرود، وتطوير أجهزة تفجير يمكن التحكم فيها عن بعد.
التطور الحقيقي جاء مع دخول التسعينيات والألفية الجديدة، حيث بدأ استخدام تقنيات متقدمة مثل الليزر لتوجيه الصواريخ، والاستعانة بالذكاء الاصطناعي لتحليل الأنماط السلوكية للأهداف، وتطوير أنظمة مراقبة ومتابعة فائقة التطور.
الثورة الرقمية والحرب السيبرانية
مع دخول عصر الثورة الرقمية، طورت إسرائيل قدرات متقدمة في مجال الحرب السيبرانية كأداة للاغتيال وتعطيل قدرات العدو. يوثق بيرغمان كيف استخدمت إسرائيل فيروسات كمبيوتر متطورة مثل "ستكسنت" لاستهداف البرنامج النووي الإيراني.
هذا النوع من "الاغتيال السيبراني" يمثل تطوراً نوعياً في مفهوم الاغتيال، حيث لا يستهدف أشخاصاً بعينهم بل قدرات وبرامج استراتيجية. كما أنه يوفر درجة عالية من إخفاء الهوية، مما يجعل إثبات المسؤولية أمراً بالغ الصعوبة.
كما طورت إسرائيل قدرات في مجال "الاغتيال الإلكتروني" باستخدام الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية الشخصية. هذه التقنيات تعتمد على اختراق هذه الأجهزة وتحويلها إلى أدوات تفجير أو وسائل لتتبع الأهداف.
طائرات بدون طيار: تقنية الاغتيال المستقبلية
أحد أكثر التطورات إثارة في تقنيات الاغتيال هو الاستخدام المتزايد للطائرات بدون طيار المسلحة. يوثق بيرغمان كيف أصبحت هذه التقنية العمود الفقري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية الحديثة، خاصة في غزة والضفة الغربية.
الطائرات بدون طيار توفر مزايا كبيرة مقارنة بالأساليب التقليدية: فهي تسمح بالمراقبة المستمرة للأهداف، وتوفر دقة عالية في الاستهداف، وتقلل من مخاطر على العملاء الإسرائيليين، كما أنها أقل تكلفة من العمليات التقليدية.
لكن هذه التقنية أثارت جدلاً واسعاً حول أخلاقية "القتل عن بُعد" والمسؤولية الأخلاقية للمشغلين الذين يقتلون أهدافاً من مسافات آلاف الكيلومترات. كما أن سهولة استخدام هذه التقنية قد تؤدي إلى تطبيع أكبر لسياسة الاغتيالات.
دور الولايات المتحدة والحلفاء الدوليين
التعاون الاستخباري الأمريكي-الإسرائيلي
يكشف بيرغمان عن مستوى التعاون الوثيق بين الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية ونظيرتها الأمريكية في مجال عمليات الاغتيال المستهدفة. هذا التعاون لم يقتصر على تبادل المعلومات، بل امتد إلى التخطيط المشترك وأحياناً التنفيذ المشترك لعمليات معينة.
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ازداد هذا التعاون بشكل كبير في إطار "الحرب العالمية على الإرهاب". الولايات المتحدة، التي كانت تنتقد سابقاً بعض العمليات الإسرائيلية، أصبحت تتبنى سياسات مماثلة وتستفيد من الخبرة الإسرائيلية في هذا المجال.
يوثق الكتاب كيف أن تقنيات الاغتيال بالطائرات بدون طيار، التي طورتها إسرائيل وأتقنتها، انتقلت إلى الولايات المتحدة وأصبحت جزءاً من استراتيجيتها في العراق وأفغانستان وباكستان واليمن وبلدان أخرى.
المواقف الأوروبية المتباينة
تختلف مواقف الدول الأوروبية من سياسة الاغتيالات الإسرائيلية بشكل كبير. بيرغمان يوثق كيف أن بعض الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، قدمت تعاوناً سرياً مع إسرائيل في بعض العمليات، بينما عارضت دول أخرى هذه السياسة علناً.
الدول التي تعاونت مع إسرائيل فعلت ذلك غالباً لأسباب تتعلق بمكافحة الإرهاب والحصول على معلومات استخبارية قيمة. لكن هذا التعاون كان محفوفاً بالمخاطر السياسية، خاصة عندما تنكشف تفاصيله للجمهور.
الفضائح التي نشأت عن استخدام جوازات سفر أوروبية مزورة في عمليات الاغتيال، مثل حادثة دبي 2010، أدت إلى توتر العلاقات بين إسرائيل وعدة دول أوروبية وإعادة تقييم سياسات التعاون الاستخباري.
التأثير على السياسات الدولية
لعبت السياسة الإسرائيلية في الاغتيالات المستهدفة دوراً مهماً في تشكيل المعايير الدولية الجديدة حول مكافحة الإرهاب والأمن القومي. العديد من الدول تبنت عقائد مماثلة، وإن كان بدرجات متفاوتة من العلنية والشمولية.
روسيا، على سبيل المثال، نفذت عمليات اغتيال ضد معارضين سياسيين في الخارج، مستخدمة مبررات مماثلة لتلك التي تستخدمها إسرائيل. تركيا أيضاً نفذت عمليات ضد قادة حزب العمال الكردستاني في عدة دول أوروبية.
هذا التطبيع للاغتيالات المستهدفة كأداة سياسية خلق تحدياً جديداً للقانون الدولي والنظام العالمي، حيث بدأت قواعد السيادة الوطنية والقانون الدولي الإنساني تتآكل تدريجياً.
نقد منهجية الكتاب ومصادره
نقاط القوة في المنهج البحثي
يتميز كتاب بيرغمان بمنهجية بحثية صارمة وشاملة تُعتبر من أبرز نقاط قوته. الاعتماد على أكثر من ألف مقابلة مع شخصيات مفتاحية، من رؤساء وزراء سابقين إلى عملاء ميدانيين، يمنح الكتاب عمقاً وثراءً في المعلومات نادراً ما نجده في الأعمال المماثلة.
كما أن استخدام الوثائق السرية والمراجع الأرشيفية المتنوعة يضفي مصداقية أكاديمية عالية على المعلومات المقدمة. التحقق المتقاطع للمعلومات من مصادر متعددة يقلل من مخاطر الخطأ أو التضليل.
الأسلوب السردي المتوازن، الذي يتجنب إصدار أحكام أخلاقية مسبقة ويركز على توثيق الوقائع، يجعل من الكتاب مرجعاً موثوقاً للباحثين من مختلف التوجهات السياسية والأكاديمية.
التحديات والقيود المنهجية
رغم نقاط القوة هذه، يواجه الكتاب تحديات منهجية مهمة. أولاً، طبيعة الموضوع (الاستخبارات والاغتيالات) تعني أن الكثير من المعلومات ما زالت سرية أو متنازع عليها. هذا يجعل التحقق الكامل من جميع المعلومات أمراً مستحيلاً.
ثانياً، الاعتماد بشكل كبير على مصادر إسرائيلية قد يخلق انحيازاً في السرد، حتى لو لم يكن مقصوداً. وجهات النظر الفلسطينية والعربية والإيرانية أقل تمثيلاً في الكتاب، مما قد يؤثر على شمولية الصورة المقدمة.
ثالثاً، التركيز على الجوانب التشغيلية والتقنية أحياناً يطغى على التحليل السياسي والاستراتيجي الأعمق. بعض النقاد يرون أن الكتاب يقدم تفاصيل مثيرة دون تحليل كافٍ لتأثيرات هذه السياسات على المدى الطويل.
مسألة السرية والكشف
يثير الكتاب أيضاً تساؤلات مهمة حول حدود الكشف عن المعلومات الاستخبارية السرية. بعض النقاد يجادلون بأن الكشف عن تفاصيل دقيقة حول عمليات الاغتيال قد يعرض حياة عملاء أو مصادر للخطر، أو يكشف تقنيات وأساليب ما زالت قيد الاستخدام.
من جهة أخرى، يدافع بيرغمان عن حق الجمهور في معرفة الحقيقة حول سياسات حكوماتهم، خاصة تلك التي تنطوي على قتل أشخاص. هذا التوتر بين الشفافية والأمن القومي يُعتبر جزءاً من النقاش الأوسع حول دور الصحافة الاستقصائية في المجتمعات الديمقراطية.
التأثير الثقافي والإعلامي للكتاب
الاستقبال النقدي والأكاديمي
حظي كتاب "Rise and Kill First" باستقبال إيجابي واسع من النقاد والأكاديميين على مستوى العالم. أشاد العديد من المراجعين بالبحث الدقيق والكتابة المشوقة والكشف عن معلومات جديدة ومهمة حول موضوع حساس ومعقد.
حصل الكتاب على جوائز مهمة عديدة، بما في ذلك جائزة الكتاب اليهودي الوطني لعام 2018 في فئة التاريخ المعاصر اليهودي. كما تُرجم إلى عشرات اللغات، مما يشير إلى الاهتمام الدولي الواسع بالموضوع.
على الصعيد الأكاديمي، أصبح الكتاب مرجعاً أساسياً في برامج دراسة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية ودراسات الأمن القومي. العديد من الجامعات تستخدمه في المناهج الدراسية، كما أنه يُستشهد به بكثرة في البحوث الأكاديمية والرسائل العلمية.
التأثير على النقاش العام
ساهم الكتاب في إثراء النقاش العام حول أخلاقية وفعالية سياسة الاغتيالات المستهدفة. في إسرائيل، فتح الكتاب نقاشاً جديداً حول سياسات الدولة الأمنية، حيث دافع البعض عن ضرورة هذه السياسات بينما انتقدها آخرون.
في الولايات المتحدة وأوروبا، أثر الكتاب على النقاشات حول سياسات "الحرب على الإرهاب" والاستخدام المتزايد لطائرات بدون طيار في عمليات القتل المستهدف. العديد من السياسيين والمعلقين استخدموا أمثلة من الكتاب لدعم أو مهاجمة سياسات بلادهم.
في العالم العربي، تُرجم الكتاب إلى العربية وأثار نقاشاً واسعاً حول طبيعة التهديد الإسرائيلي وضرورة تطوير استراتيجيات دفاعية جديدة. كما أنه وفر نظرة داخلية نادرة على طريقة تفكير وعمل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
التأثير على الأعمال الثقافية والفنية
ألهم كتاب بيرغمان العديد من الأعمال الثقافية والفنية، من أفلام وثائقية إلى أعمال درامية ورويات. القصص المثيرة والشخصيات المعقدة التي يحتويها الكتاب وفرت مادة غنية للكتاب والمخرجين.
عدة شبكات تلفزيونية أنتجت أفلاماً وثائقية تستند جزئياً إلى معلومات من الكتاب، كما أن هناك مشاريع درامية قيد التطوير تستلهم من قصص الكتاب. هذا التأثير الثقافي يساهم في نشر المعرفة حول الموضوع وإيصالها لجمهور أوسع.
مقارنة مع أعمال مماثلة
مقارنة مع كتب الاستخبارات السابقة
عند مقارنة كتاب بيرغمان مع الأعمال السابقة التي تناولت الاستخبارات الإسرائيلية، مثل "By Way of Deception" لفيكتور أوستروفسكي أو "The Spy Who Came in from the Cold War" لإيان بلاك وبيني موريس، نجد أن كتاب بيرغمان يتميز بشموليته وحداثة معلوماته.
بينما ركزت الأعمال السابقة على جوانب معينة أو فترات محددة، يقدم بيرغمان نظرة شاملة تغطي أكثر من 70 عاماً من النشاط الاستخباري. كما أن وصوله لمصادر رفيعة المستوى وحديثة العهد يمنح كتابه ميزة مهمة على الأعمال السابقة.
مقارنة مع الأدب الأكاديمي
في المقارنة مع الأدب الأكاديمي المتخصص في دراسة الاستخبارات والاغتيالات المستهدفة، يتميز كتاب بيرغمان بقابليته للقراءة من قبل الجمهور العام دون التضحية بالدقة العلمية. العديد من الدراسات الأكاديمية، رغم دقتها، تفتقر إلى العمق التجريبي والتفاصيل الملموسة التي يوفرها الكتاب.
كما أن منهجية بيرغمان في الجمع بين البحث الأكاديمي والصحافة الاستقصائية تخلق نوعاً جديداً من الكتابة العلمية التي تجمع بين الصرامة المنهجية والسرد المشوق.
التفرد في التناول
ما يميز كتاب بيرغمان عن جميع الأعمال السابقة هو تركيزه المخصصص على موضوع الاغتيالات المستهدفة كسياسة شاملة وليس مجرد عمليات منفردة. هذا المنظور الشامل يسمح بفهم أعمق لتطور هذه السياسة وتأثيراتها على المدى الطويل.
كما أن اعتماده على مصادر إسرائيلية رسمية وشبه رسمية يمنح الكتاب مصداقية خاصة، حيث أن الكثير من المعلومات تأتي من الأشخاص الذين خططوا وأشرفوا على هذه العمليات بأنفسهم.
الدروس المستفادة والتوصيات
دروس للباحثين والأكاديميين
يقدم كتاب بيرغمان دروساً مهمة للباحثين والأكاديميين المهتمين بدراسة الاستخبارات والأمن القومي. أولى هذه الدروس هي أهمية الوصول إلى مصادر متنوعة ومتعددة المستويات، من صناع القرار في القمة إلى المنفذين في الميدان.
الدرس الثاني هو ضرورة الموازنة بين الحفاظ على الموضوعية العلمية والحاجة إلى جعل البحث قابلاً للقراءة والفهم من قبل جمهور واسع. بيرغمان نجح في تحقيق هذا التوازن من خلال أسلوب سردي مشوق دون التضحية بالدقة العلمية.
الدرس الثالث يتعلق بأهمية التحقق المتقاطع من المعلومات، خاصة عند التعامل مع موضوعات حساسة وسرية. منهجية بيرغمان في مقارنة المصادر والبحث عن تأكيدات متعددة للمعلومات الحساسة تُعتبر نموذجاً يُحتذى به.
توصيات لصناع السياسة
بالنسبة لصناع السياسة، يقدم الكتاب دروساً مهمة حول فوائد ومخاطر سياسة الاغتيالات المستهدفة. من أهم هذه الدروس أن النجاح التكتيكي لا يضمن بالضرورة تحقيق الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى.
الكتاب يُظهر أيضاً أهمية وجود آليات مراجعة ومحاسبة داخلية لضمان أن قرارات الاغتيال تُتخذ بناء على معلومات دقيقة وتقييم سليم للتكلفة والفائدة. العديد من الأخطاء الموثقة في الكتاب كان يمكن تجنبها لو وُجدت آليات مراجعة أقوى.
كما يؤكد الكتاب على ضرورة وجود إطار قانوني وأخلاقي واضح لتنظيم عمليات الاغتيال، بما في ذلك معايير واضحة لتحديد الأهداف المشروعة وبروتوكولات لتقليل الأضرار الجانبية.
دروس للأجهزة الاستخبارية
بالنسبة للأجهزة الاستخبارية في مختلف البلدان، يوفر الكتاب نظرة قيمة على تطور واحدة من أكثر أجهزة الاستخبارات فعالية في العالم. من أهم الدروس ضرورة الاستثمار في التدريب طويل المدى والتطوير المستمر للقدرات التقنية.
الكتاب يُظهر أيضاً أهمية التنسيق بين الأجهزة المختلفة وتجنب المنافسة الداخلية المدمرة. العديد من العمليات الناجحة في الكتاب تميزت بالتنسيق الفعال بين الموساد والشاباك والوحدات العسكرية الخاصة.
كما يؤكد على أهمية تطوير قدرات استخبارية بشرية قوية إضافة إلى الاعتماد على التقنيات المتطورة. العديد من العمليات الحاسمة اعتمدت على معلومات من عملاء بشريين لا يمكن الحصول عليها بالوسائل التقنية فقط.
الخاتمة والتقييم الشامل
تقييم شامل للكتاب
كتاب "Rise and Kill First" لرونين بيرغمان يُعتبر بلا شك إحدى أهم الإسهامات في فهم طبيعة وتطور السياسات الأمنية الإسرائيلية والاستخبارات الحديثة بشكل عام. من خلال بحث دقيق وشامل، نجح المؤلف في تقديم أول تاريخ مفصل لسياسة الاغتيالات المستهدفة الإسرائيلية، مكشوفاً عن معلومات وتفاصيل لم تكن متاحة للجمهور من قبل.
نقاط القوة الرئيسية للكتاب تتمثل في المنهجية البحثية الصارمة، والوصول إلى مصادر رفيعة المستوى، والتوازن في العرض بين التفاصيل التقنية والتحليل السياسي، والقدرة على وضع الأحداث في سياقها التاريخي والاستراتيجي الأوسع.
الكتاب يقدم مساهمة مهمة في فهم ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط، وتطور مفاهيم الأمن القومي في العصر الحديث، والتحديات الأخلاقية والقانونية التي تطرحها الحرب على الإرهاب.
التأثير طويل المدى
من المتوقع أن يكون لهذا الكتاب تأثير طويل المدى على عدة مستويات. على المستوى الأكاديمي، سيبقى مرجعاً أساسياً للباحثين والطلاب لسنوات قادمة. على المستوى السياسي، قد يؤثر على النقاشات حول سياسات مكافحة الإرهاب والاغتيالات المستهدفة في مختلف البلدان.
على المستوى الثقافي، ساهم الكتاب بالفعل في تشكيل فهم أوسع لطبيعة الصراعات المعاصرة والدور المتزايد للاستخبارات والعمليات السرية في السياسة الدولية.
التحديات المستقبلية
رغم أهمية الكتاب وإسهاماته الكبيرة، فإنه يترك أسئلة مهمة دون إجابة كاملة. كيف ستتطور تقنيات الاغتيال مع التطور التقني المستمر؟ ما هو التأثير طويل المدى لسياسة الاغتيالات على استقرار الشرق الأوسط؟ كيف يمكن تطوير إطار قانوني دولي للتعامل مع هذه التحديات؟
هذه الأسئلة وغيرها تتطلب المزيد من البحث والدراسة، وتفتح الباب أمام أعمال مستقبلية تبني على الأسس التي وضعها بيرغمان في كتابه الرائد.
كتاب "Rise and Kill First" ليس مجرد كتاب عن التاريخ العسكري أو الاستخباري، بل هو دراسة عميقة في طبيعة القوة والعنف والأخلاق في العالم الحديث. إنه يجبرنا على مواجهة أسئلة صعبة حول الثمن الذي نحن مستعدون لدفعه من أجل الأمن، والحدود بين الدفاع المشروع والعدوان، ودور الأخلاق في اتخاذ قرارات الحياة والموت.
في النهاية، يبقى هذا الكتاب شاهداً مهماً على حقبة معقدة ومتناقضة من التاريخ المعاصر، ودليلاً لا غنى عنه لفهم واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في عصرنا الحالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق