مراجعة نقدية معمقة: "الفن الضائع: ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل" لجون إدوارد هوث

 

مراجعة نقدية معمقة: "الفن الضائع: ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل" لجون إدوارد هوث



مقدمة

يمثل كتاب "الفن الضائع: ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل" (The Lost Art of Finding Our Way)، للمؤلف الفيزيائي والأكاديمي البارز في جامعة هارفارد جون إدوارد هوث، وترجمة الدكتور سعد الدين خرفان، إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال العلوم البينية (Interdisciplinary Sciences) التي تجمع بين الفيزياء، والأنثروبولوجيا المعرفية، والتاريخ، وعلوم الإدراك. صدر الكتاب ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية (العدد 440، سبتمبر 2016)، ويقدم في جزئه الأول دراسة معمقة لاستراتيجيات اهتداء السبيل والملاحة التي طورتها الحضارات والثقافات المختلفة، مسلطًا الضوء على التحدي الإدراكي والمهاري الذي يواجه الإنسان المعاصر نتيجة الاعتماد الكلي على التقنيات الرقمية مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

تتركز الأطروحة المركزية للكتاب حول فكرة أن إتقان فن الملاحة التقليدية، سواء كان في البر أو البحر، لا يمثل مجرد مجموعة من المهارات التقنية، بل هو نظام معرفي متكامل (Cognitive System) يعزز الوعي المكاني والإدراكي للفرد. يتبنى المؤلف منهجاً متعدد الأبعاد، ينتقل فيه بسلاسة بين سجلات الملاحة التاريخية (كرحلات الفايكنغ، والبولينيزيين، والملاحين العرب القدامى)، وبين المفاهيم الفيزيائية والرياضية الكامنة خلف هذه التقنيات، مروراً بالتحليل المعرفي لعمليات الإدراك البشري للمكان والاتجاه.

التحليل الموضوعي والمنهجي

يتسم الكتاب بمنهجية تحليلية صارمة تعتمد على تفكيك عملية اهتداء السبيل إلى مكوناتها الأساسية: الإدراك (Perception)، الذاكرة المكانية (Spatial Memory)، التخمين الصائب (Dead Reckoning)، والقدرة على استخدام المؤشرات الطبيعية (البيئة، النجوم، الشمس، الرياح).

الفصل الأول والثاني: الأطروحة والخرائط الإدراكية

يبدأ هوث بطرح مفهوم "الفن الضائع" مُشيراً إلى التناقض بين توفر الأدوات الملاحية الحديثة (GPS) وتآكل المهارات الإدراكية الأساسية لاهتداء السبيل. يقدم الفصل الثاني، "خرائط في العقل" (Maps in the Mind)، تحليلاً رائداً للأساس العصبي والإدراكي للملاحة، مستخدماً الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب (كاكتشاف "خلايا المكان" و"الخلايا الشبكية" في الحصين - Hippocampus - التي تشكل "الخريطة الإدراكية" لدى الثدييات).

يؤكد المؤلف أن الخريطة الإدراكية ليست تمثيلاً حرفياً للواقع، بل هي بناء عقلي نسبي يعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية:

  1. التخمين الصائب (Dead Reckoning): القدرة على تقدير الموقع بناءً على نقطة انطلاق معروفة والاتجاه والمسافة المقطوعة (دون إعادة تثبيت الموقع).

  2. الإدراك (Perception): الملاحظة المستمرة للبيئة واستخدام المؤشرات المكانية البارزة.

  3. الخريطة العقلية (Cognitive Map): البنية الشبكية المعقدة في الدماغ التي تخزن العلاقات بين الأماكن.

يُقارن هوث بين الخرائط العقلية المكتسبة بالتجربة المباشرة لدى الملاحين التقليديين، وبين الاعتماد السلبي على الخرائط المطبوعة أو الرقمية، مبيناً أن الأخيرة لا تُفعل الشبكات العصبية بنفس الكفاءة، مما يؤدي إلى ضعف في الإحساس بالاتجاه.

الفصل الثالث: سيكولوجية الضياع

في فصل "حول الضياع"، ينتقل هوث إلى الجانب النفسي والسلوكي لـ "فقدان الاهتداء". يصف ظاهرة "صدمة الغابات" (Woods Shock)، وهي الاستجابة السلوكية التي تصيب الشخص الضائع (كالمشي في دوائر أو الإصرار على اتجاه خاطئ)، ويربطها بحالة من الانهيار الإدراكي نتيجة فشل نظام الملاحة العقلي.

كما يستعرض بيانات متراكمة من فرق البحث والإنقاذ (Search and Rescue, SAR)، ويقدم تحليلاً إحصائياً لأنماط سلوك المفقودين ("السير العشوائي" مقابل "السير المنحاز")، مُظهراً كيف أن التوتر والخوف يمكن أن يعطلا القدرة على التفكير المكاني المنطقي. هذه النظرة السيكولوجية للملاحة تؤسس لضرورة تطوير المرونة المعرفية (Cognitive Resilience) كجزء لا يتجزأ من مهارات اهتداء السبيل.

الفصل الرابع: التخمين الصائب والقياس الدقيق

يُخصص فصل "التخمين الصائب" لتحليل آليات تقدير المسافة والاتجاه دون الاستعانة بالمعالم الثابتة. يدمج هوث في هذا الفصل بين ممارسات القياس البشرية القديمة (مثل استخدام طول القدم والذراع) وبين المبادئ الفيزيائية. يستعرض مفاهيم دقيقة مثل:

  • قياس المسافة البصرية (Angular Range Estimation): استخدام زوايا الارتفاع أو العرض الظاهري للأجسام المرجعية المعروفة (كالأبراج أو المنارات) لتقدير المسافة إليها، وهو مفهوم يعتمد على حساب المثلثات.

  • الحساب الميت (Dead Reckoning - DR): وهو تقنية قديمة للملاحة البحرية تعتمد على تسجيل الاتجاهات والسرعة المقطوعة على فترات زمنية محددة. يوضح هوث كيف أن دقة هذه العملية تتأثر بالانحراف التراكمي لخطأ السرعة والاتجاه (Speed and Heading Errors)، ويقدم نماذج إحصائية (كـ Random Walk) لتفسير تزايد عدم اليأكد في الموقع بمرور الوقت. يستشهد بسجلات رحلات لويس وكلارك (Lewis and Clark) كنماذج تاريخية لدقة التخمين الصائب في البر.

الفصل الخامس: الأساطير الحضرية وتقنيات الملاحة الثقافية

يُعالج الفصل الخامس "أساطير حضرية في الملاحة" الفولكلور الملاحي ويفند بعض الاعتقادات الشائعة، مثل مقولة أن الطحالب تنمو دائماً على الجانب الشمالي من الأشجار. يقدم هوث تحليلاً أنثروبولوجياً لظاهرة "فقدان الفن" عبر استعراض الأدلة التاريخية التي تظهر أن الملاحين القدامى كانوا يعتمدون على مجموعة مركبة من المؤشرات، بدلاً من قاعدة واحدة بسيطة.

يُعزز هذا الفصل فكرة أن الملاحة التقليدية هي مجموعة مهارات ثقافية (Cultural Skillset) وليست مجرد حيل طبيعية. يعرض هوث أمثلة لرحلات استكشافية تاريخية (مثل رحلة هوارد وإيلسون في لابرادور)، مُبيناً كيف أن الضياع غالباً ما كان نتيجة لفقدان الاتصال بالشبكة الثقافية للمعلومات الملاحية المتوارثة.

الفصل السادس والسابع والثامن: الأنظمة التقنية (الخرائط، البوصلة، النجوم، والشمس)

تتناول هذه الفصول الأنظمة الكبرى للملاحة التي تم تطويرها عبر التاريخ:

  • الخرائط والبوصلة (Maps and Compasses): يدرس الفصل السادس تاريخ الخرائط، من النقوش الصخرية القديمة (مثل خريطة جورغان تيبي) إلى خرائط العصور الوسطى (مثل خريطة T-O)، متوقفاً عند تقنية التثليث (Triangulation) التي أسست للقياس الدقيق في العصر الحديث. كما يفصل في تطور البوصلة (من حجر المغناطيس إلى البوصلة المغناطيسية) والفيزياء الكامنة خلفها، بما في ذلك مفهوم الاختلاف المغناطيسي (Variation/Deviation).

  • النجوم (Stars): يركز الفصل السابع على الملاحة الفلكية، مستعرضاً أنظمة الملاحة المعقدة لدى البولينيزيين (باستخدام أنظمة نجمية مثل "starpaths")، والفايكنج. يوضح هوث كيف يمكن استخدام مجموعات نجمية رئيسية (كالدب الأكبر، والمثلث الصيفي، والنجوم القطبية) لتقدير خط العرض والاتجاه، وكيف أن هذه المعرفة تتطلب ذاكرة فلكية عميقة.

  • الشمس والقمر (Sun and Moon): يختتم الجزء الأول بتحليل دور الشمس والقمر كأدوات ملاحية وتوقيتية. يشرح المؤلف العلاقة بين ميل الشمس (Declination) وخطوط العرض المختلفة، واستخدام البوصلة الشمسية (Sun Compass) كبديل فعال للبوصلة المغناطيسية، مع التركيز على التقنيات المستخدمة لتقدير الوقت والموقع (مثل استخدام الظل - Gnomon - أو حساب التغيرات في طول النهار). كما يناقش تأثير الشمس والقمر على المد والجزر وتطور تقنيات مثل حجر الشمس (Sunstone) الذي يُعتقد أن الفايكنج استخدموه للكشف عن ضوء الشمس المستقطب في الأيام الغائمة.

التقييم النقدي والإضافة العلمية

نقاط القوة:

  1. الشمولية والمنهج البيني: يُعد الكتاب نموذجاً للتأليف العلمي الذي ينجح في دمج علوم إنسانية (الأنثروبولوجيا والتاريخ) مع علوم دقيقة (الفيزياء والرياضيات والإدراك العصبي). هذه الشمولية تجعله مرجعاً أساسياً لكل مهتم بعلوم الملاحة والإدراك المكاني.

  2. التأسيس الإدراكي للملاحة: يتميز الكتاب بتركيزه على الجانب الإدراكي للملاحة، مُخالفاً النظرة السائدة التي تحصرها في الجانب التقني. عبر استعراضه لـ "الخرائط في العقل"، يضع هوث المهارة الملاحية في سياق تطوري ومعرفي عميق.

  3. إحياء المعرفة التقليدية: نجح المؤلف في إبراز العبقرية الهندسية والرياضية الكامنة في تقنيات الملاحة التقليدية (مثل ملاحي جزر كارولين الذين يتتبعون انحرافات الأمواج) وتقديمها كأنظمة علمية دقيقة لا تقل تعقيداً عن نظيراتها الحديثة، مبيناً أنها بُنيت على قرون من الملاحظة التجريبية الصارمة.

مواطن النقاش والتحديات:

  1. الفجوة بين النظرية والتطبيق: على الرغم من الوصف التفصيلي للتقنيات، قد يجد القارئ غير المتخصص صعوبة في ربط المفاهيم الفيزيائية والرياضية المعقدة (كالتثليث الفلكي أو حساب الميل الشمسي) بالواقع التطبيقي، مما يتطلب منهجه الأكاديمي جهداً إضافياً للمتابعة.

  2. التركيز على الماضي: قد يرى البعض أن تركيز الكتاب الشديد على "الفن الضائع" (الماضي) لا يقدم حلاً مباشراً لتحديات الملاحة المعاصرة (كالاعتماد على التقنية)، رغم أن هدفه الرئيسي هو استعادة الوعي المكاني.

  3. جودة الترجمة (سياق الإصدار العربي): تُعد ترجمة الدكتور سعد الدين خرفان إنجازاً كبيراً في نقل النص العلمي المعقد إلى العربية. ومع ذلك، تبقى ترجمة المصطلحات البينية (مثل Cognitive Map) تحدياً يتطلب توحيداً اصطلاحياً مستمراً في سياق الترجمة العلمية العربية.

الخاتمة: دعوة لاستعادة الإدراك المكاني

يُمثل "الفن الضائع" نداءً فكرياً لاستعادة جزء حيوي من الإرث البشري: القدرة على قراءة العالم المحيط والاندماج معه. يختتم جون إدوارد هوث جزئه الأول بالتحذير من أن فقدان مهارات اهتداء السبيل ليس مجرد فقدان لأدوات تقنية، بل هو فقدان لـ جزء من الذاكرة الإدراكية الجماعية التي ربطت الإنسان ببيئته عبر آلاف السنين.

الكتاب ليس مجرد سجل تاريخي للملاحة، بل هو إطار تحليلي لـ العلوم المعرفية التطبيقية؛ إذ يوضح كيف أن ممارسة الملاحة التقليدية، القائمة على الملاحظة المستمرة، والاستدلال، والتخمين الواعي، هي تمرين عقلي (Cognitive Exercise) يعيد تشكيل الخرائط العصبية في الدماغ ويحسن من الوعي المكاني، مُقاوماً حالة "العمى الملاحي" التي تفرضها التقنيات الحديثة.

إن الأهمية العلمية للكتاب تكمن في قدرته على تحويل حكايات الملاحين وأساطيرهم إلى دراسة حالة (Case Study) في الفيزياء التطبيقية والأنثروبولوجيا المعرفية، مما يجعله مرجعاً لا غنى عنه للباحثين في مجالات التاريخ، والجغرافيا الإدراكية، وعلم النفس البيئي، وكمادة محفزة للقارئ العادي الذي يسعى لإعادة بناء علاقته الإدراكية مع المكان.